إنها رسالة الضمير إلى هذه الطبقة من رجال الساسة ورجال الكهانة وتجَّار العبادات والمعاملات وتجار البشر والحجر الذين أرادوا أن يمنعوا القوت عن الناس ليوفروه لأنفسهم وحاشيتهم وأولادهم
 

استوقفتني حادثة حصلت مع المفكر والأديب الشيخ مصطفى لطفي المنفلوطي، ذكرها في كتابه (النظرات)، فقال: (حضرتُ مجلساً من مجالس الأحكام حكم فيه قاضٍ مرتشٍ على متهمٍ سرق رغيفاً، فوضعت يميني على فمي مخافة أن يخرج أمر نفسي من يدي فأهتف صارخاً لما ألمَّ بقلبي من الرعب والفزع صرخةً تُدوِّي بها جوانب القاعة دوي الموج الثائر، في البحر الزاخر، قائلاً مهلاً أيها الحاكم الظالم، فأنت إلى قاضٍ عادلٍ تقف بين يديه، أحوج منك إلى كرسي فخمٍ تجلس عليه، ولو عدل القانون بينك وبين هذا الماثل بين يديك لبتَّ وأعلاكما الأسفل، إنك ترتزق في كل شهر، فلم ترتش إلاَّ لأنك شره طماع، وهذا السارق لم يسرق ذلك الرغيف إلا لأنه جائع ملتاع، ولو ملك ما تملك ما فعل فعلته التي فعل، فأنت مجرمٌ إلا أنك في وشاح شريف، وهو شريف إلا في شملة المجرم... فيا لله للحقيقة التي عبثت بها القوانين، ولعبت بعقول الناس فيها العناوين... رُبَّ نفسٍ بين جدران السجون أطهر قلباً وأنقى رُدناً وأبيض عرضاً من مثلها بين جدران القصور، ورُبَّ طريدةٍ من طرائد المجتمع الإنساني ساقها المقدار الذي لا مفرَّ من حكمه إلى وقفةٍ فوق أعواد المشنقة كان أجدر بها ذلك المرابي الذي ينصب حبالة ماله لخراب البيوت العامرة، وإطفاء النجوم الزاهرة، أو ذلك القائد الذي يسفك في مواقفه دم "البشر" في غير سبيلٍ سوى سبيل المجد المصنوع، والفخر الموضوع،أو ذلك السياسي الذي يدبر المكيدة للحملة على أمة مستضعفة آمنة في مرقدها، سعيدة في نفسها، فيستعيد أحرارها،ويستذل أعزاءها،ثم يسلبها أثمن ما تملك يمينها من حريتها واستقلالها، وسعادتها وهنائها...)

إقرأ أيضا : عزل الحاكم لا يتم إلاَّ بشن الحروب!
 إنها رسالة الضمير إلى هذه الطبقة من رجال الساسة ورجال الكهانة وتجَّار العبادات والمعاملات وتجار البشر والحجر الذين أرادوا أن يمنعوا القوت عن الناس ليوفروه لأنفسهم وحاشيتهم وأولادهم،ولكل من لهم فيه هوىً أو أهواء،من أجل مجد الرب في الأرض، إنها رسالة كاسحة على المغتصبين الناهبين المرائين من شيوخٍ وساسةٍ وكهنةٍ وحكامٍ وتجَّار دينٍ وبشر، من الذين يتبذَّخون على جهد الكادحين والفقراء والمساكين، ويعيشون على تعبه وعرقه ودمه كما تعيش السوسة على ماء الحياة في الشجرة المثمرة، إنهم يحزمون أثقالاً ثقيلة شاقة الحمل، ويضعونها على أكتاف الناس، وهم لا يريدون أن يحرِّكوها بإصبعهم، فتباً لكل إنسانٍ يجعلهم أسياده على حياته ومصيره ومستقبله ومستقبل أولاده في هذا البلد الذي يسوده آكل ومأكول وسيدٍ ومسود، وتسوده جماعات وأحزاب تتصارع وتتقاتل على رضوان الله تبارك وتعالى.