في آخر صفحة من كتابه "سموم النص: كتابات مفتوحة على المحرمات الدينية-السياسية" للشيخ عباس حايك يعلن كفره بالإسلام الإرهابي الغريب الذي لا يزال يفتك بالإنسانية والبعيد كل البعد عن الله.."


ويعتقد أن "الله لا علاقة له بشيخ أو بسيد أو بقائد.."..كما يُعلن انسحابه من كل ما يختزل كيان الإنسان بشعر الذقن أو بلون العمة والجبة..". 


هذه البراءة ملغومة أم بسيطة لا خلفيّة لها؟ 


إنّها خاتمة متفجرة لبدايات نارية لن يرضاها القارئ التقليدي بسهولة، فهو قد يرمي بالكتاب جانبا إن كان يسعى نحو كتابات معروفة النهاية سلفا. 


فما جدوى النص عندها لو كان القارئ عارفا بمضمونه؟ وما هي الفائدة منه إذاً إن لم يكن فتحا جديدا ومثيرا، بل تخريبيا لمُسلمات رسخت في القعر، وصارت كالباطون لا يمكن إزالته؟


في كتاب كبير يصل عدد صفحاته إلى 324 صفحة، يستبد عباس حايك الكاتب بالقارئ بعسفه ورؤيته!


وأقول عباس حايك، دون صفة الشيخ، لكون الكاتب قد أزال صفته الدينية تحريرا للقارئ من التفكير المُسبق عن انتاجات هذه الطبقة التي تجتّر غالبا مفاهيمها في كتب محددة الخلاصات. 


كيف؟؟ من خلال إيراده كلمة "نص" في العناوين لأكثر من 30 مرة، إن لم يكن أكثر.


فما باله من داخل النص المكتوب بـ324 صفحة، ليُعلن خروجه عن النص المُقدس بجرأة وتفلّت شاعر وأديب..  


وهو يعتبر كتابه هذا عبارة عن "استئصال لأعضاء طالها السّم في القلب والعقل لمواجهة مرض هو أخطر من الأمراض السرطانية والفيروسية". 


ولا بد من الالتفات إلى أن مقدمة الشيخ علي حب الله تقف كبوابة حديدية أمام المدخل تُحذّر القارىء من كتاب سهل مثير ناقد، وكحاجز أمام القارئ المهروق للاطلاع لكونه يُفلسف الفكرة، وهي فكرة قدّمها حايك ببساطة شديدة وبإسلوب قريب لفهم العامة بعيدا عن "الفذلكات" الحوزوية والفكرية التي يهواها العديد من الكُتّاب.


من عادتي ألا أستسيغ كتابات المُعممين لكون غالبها ترويجي لمدرسة تراثية ما، ولا أجد فرقاً بينهم إلا بعد اكتشاف ثغرة غير تقليدية لدى هذه الفئة فيما يخصها تأليفا وإعدادا.


وكانت قراءة هذا الكتاب بمثابة تحدِ لي لعلّي أجد ما هو مميّز وجميل عند هذه المجموعة الغريبة التي تتسلط على رقاب الناس وحياتهم. هل يدركون أكثر من عموم المتابعين؟ وهل يملكون أدوات فهم النص وأدوات المعرفة؟
لعل حايك لجأ إلى نزع صفة الشيخ عن رأس كتابه، هذا، لمزيد من الإستفزاز، ولأجل جذب من يهوى مطالعة المُختلف والمخالف وإن بالعنوان.


تميّز النص بطابع "الأدبيّة" على مجمل النصوص، بل يمكن القول إنّه نحا نحو مقال الرأي أكثر منه نحو الحجة والحجة المُضادة.


وهو يتلو فعل الاعتراف بالقول "أنهكت أعصابي جراء هذا النص الأدبي الطويل،  ورجفت أناملي.."، هذا الاعتراف ليس الوحيد له داخل النص، بل إنه يعترض على الخلافة والشورى معاً، ولم يطرح إنموذجا بديلا عنهما في هذا العصر البعيد جدا عن زمن الرسول، وهو مُحق بمسألة أنّ المسلمين لا زالوا واقفين عند النموذج الأول، فلم يأتِ على ذكر نموذج الثورة الإسلامية في إيران و"ولاية الفقيه" أو "شورى الفقهاء" أو بدعة"المرجعية" أو بدعة "ولي العهد" أو "أمير المؤمنين".


فهل يحاول الشيخ عباس حايك أن يسير على خطى الشيخ حسن مشيمش الكاتب النقدي في جريدة السفير سابقا، وصاحب مجلة "ضفاف"، التي كانت فتحاً جديدا من مُعمم صدمنا بعدها بخبر اتهامه وسجنه السياسي. وقد أثار الكثير من الأجواء الدينية بانتقاداته المُلفتة وانتهى نهاية مأساوية. وكان عباس حايك مثله قد أثار في العام 2015 حوله الوسط المُسلم بقوله إنّ "الحجاب عادة لا عبادة".


ولا من الخلاصة التي وصلنا إليها أن الشيخ عباس كاره لخيار إتخذه، هل كُشف له بعد إرتداء العمامة والجُبة على طريقة الفنان التشكيلي محمد مكي شمس الدين الذي هرب من النجف، وإلى أي مدى يُشبه الشيخ في رواية حسن داوود "لا طريق إلى الجنة"؟


يتميّز نص حايك باعتماده على مصادر اشكالية، منها كتب الصادق النيهوم، وجلال العظم، وعلي عبدالرازق، وهاشم صالح، وغالب الشابندر، وفاطمة المرنيسي ومدظم عابد الجابري.. وهم بعيدون عن الخط التراثي في التفكير والشرح لنمط التفكير الإسلامي التقليدي الذي "أنعش السلفية والأصولية والدموية الجهادية التي كبلت عقولنا...". وهو باقتباساته يفتح الحرب على كل من هو مدعٍ للعلم الديني، فيقول "اللغة أشبه بلغة المُغيط". واللافت استعماله لأقوال شعبية وغالبا باللهجة العامية اللبنانية!!


فهل كانت هذه النصوص قبل النشر عبارة عن محاضرات، كونها تعتمد لغة الخطابة الجذّابة التي يُتقنها المعممون، وتم تشذيبها لاحقا على نمط الكتب الإيرانية لكل من علي شريعتي ومرتضى مطهري؟؟


أما الميزة الثانية فهي أن هذه النصوص تحرّك العقل الراكد والدماغ الذي "يتلبك" حيال الثوابت. لكنه غالبا ما يُظهر حيرته بين عقله وإيمانه، فمن سيغلب في النهاية؟ ويظل سؤاله مطروحا عن اختلاف التفسيرات وتضاربها أهوَ رحمة أم ضياع؟


وتطغى على نصوصه الاستشهاد بإشكالييّن، وربما هذا ما شكّل مصدر قلقه، فهو يظهر ككاتب قلق ومتوتر لم يخلص إلى نتيجة بشيء، بل جلّ ما يكتبه هو طروحات وأسئلة مثال "الأمة الوسط" التي لا تفسير منطقي لها حتى اليوم، رغم أن الآية تقول "جعلناكم أمة وسطا". فهذا "المصطلح  أفرز سيولة في مفهومه ودلالته".


فالفصل الخاص بـ"النص الوسطي" يخضّ المُسلمات ولا يرسيها على برّ الخلاص، فالكاتب يُصيب القارئ باكتئاب حاد جراء اليأس من واقع الحال المفاهيمي الذي نحن فيه، مُطالبا بتفسيرات جديدة.


ميزة الكاتب أنّه يخرج من كل الأطر الإفهوميّة فيما يتعلق بالنص الديني وتفسيراته، لكنه لا يسمح لنفسه بالخروج عن منطق الدفاع عن الأمة (قضية فلسطين).


فيما يتعلق بالجدّة بالمفاهيم التي يطرحها، نرى أنه تولى في "فراغ النص" تجلية الإبداع الأدبي. فالفراغ ليس ذو معنى سلبي بقدر ما هو حثّ على الابداع لدى الكاتب. ويجذب بناحية من النواحي بكثافة التعبير وتركيب الجمل فيظهر الجزالة في النص. 


وهو يعالج مسألة الزواج، والطلاق، وتعدد الزوجات، والخُمس، والفريضة الغائبة، مع عشرات الأفكار المثيرة للجدل والتأويل.. وميزة عرضه لهذه القضايا أنه يستجلب نصوصه من كتب التراث السنيّة والشيعية معا دون تمييز. ويُدين ويحاكم الطرفين معا دون تمييز أيضا.


وفي الختام، يسأل القارئ ما هو المنهج الذي يطرحه الشيخ عباس حايك كبديل عن المنهج التفسيري التقليدي؟ وما هو إسمه؟ أهو المنهج النيتشوي التخريبي المزلزل للثوابت؟ هل يُقبل به كمنهج إسلامي؟ وهل يتم الاعتراف به؟.
"سموم النص- كتابات مفتوحة على المحرمات الدينية والسياسية"، عباس حايك، صادر عن مؤسسة الانتشار العربي.

 

 

الشراع