ستكون لحظة التوقيع على اتفاق الترسيم بين لبنان وإسرائيل مفصلية للبنان بكل ما للكلمة من عدة مَعان. وعلى الأرجح، ستكون هي النقطة الصفر التي سيبدأ بعدها لبنان بالصعود من قعر الهاوية.


عندما يتمُّ التوقيع، سيصبح لبنان فعلاً، لا افتراضاً، عضواً في نادي الدول المصدِّرة للغاز. وسواء بدأ الاستخراج بعد عامين أو أكثر، فإنّ مفاعيل استثمار الطاقة الغازية ستصبح أمراً واقعاً في اللحظة التي يتم فيها التوقيع.

 

 

وعندما يصبح يقينياً أن لبنان سيسحب من مخزونات أرضه كميات من الغاز تقدّر قيمتها بمليارات الدولارات، بعد فترة ليست بعيدة نسبياً، بضمانة الولايات المتحدة والأمم المتحدة وشركات أوروبية، سيصبح سهلاً تعاطيه مع العالم في المسائل المالية والاقتصادية.

 

 

بعد الاتفاق، لن يضطر لبنان إلى بذل الجهود المضنية للحصول على دعم ببضع عشرات أو مئات من ملايين الدولارات، متوسّلاً إلى الشرق والغرب، بل إن الجهات المانحة والأصدقاء والأشقاء سيمنحونه القروض الوافرة، ما دامت مضمونة بموارد قيد الاستخراج. واستتباعاً، سيتمكن لبنان من سداد ديونه بعد مفاوضة الدائنين من موقع قوة.

 

 

فوق ذلك، سيصبح علاج الأزمة المالية والنقدية والاقتصادية متوافراً. أي سيصبح ممكناً تمويل خطة النهوض وتنفيذها. وفي شكل مباشر، يُفترَض أن ينعكس الاتفاق تحسُّناً في سعر الليرة يدعم الاتجاه نحو حدّ أدنى من الاستقرار الاجتماعي.

 

 

وسيؤدي انخراط «حزب الله» في هذه التسوية، بل قيادته لها، إلى فكّ الحصار الأميركي والخليجي عنه وعن حلفائه ولبنان عموماً، ما يعني أن الدول العربية النافذة ستستأنف علاقاتها السياسية والاقتصادية مع لبنان، وتعاود تدفقاتها الاستثمارية في اتجاهه.

 

 

هذه التوقعات المتفائلة ليست وليدة تحليلات ولا افتراضات، بل ستكون أمراً واقعاً عندما يتم توقيع الاتفاق، لأنها من انعكاساته البديهية على المستويين الاقتصادي والسياسي. فلبنان ما قبل الترسيم ليس هو نفسه لبنان ما بعد الترسيم.

 

 

وهذا المناخ الإيجابي، اقتصادياً واجتماعياً، سينعكس استقراراً تلقائياً على المستوى السياسي. وفي الدرجة الأولى، سيكون الرئيس ميشال عون قد أنقذ عهده في اللحظات الأخيرة، وفي بعض الجوانب على الأقل.

 

 

ويمكن تشبيه الوضع بمباراة في كرة القدم بقيت فيها النتيجة صفراً- صفراً حتى الدقيقة الأخيرة. ولكن، في لحظة انطلاق صفّارة النهاية، نجح أحد اللاعبين في تسجيل الهدف اليتيم، وانتزاع فوزٍ غير متوقّع لفريقه.

 

 

فهل سيكافأ عون على إنجاز الاتفاق في عهده؟ وفي معنى آخر، هل القوى الدولية والعربية الراعية لاتفاق الترسيم، وهي نفسها تشرف عادةً على التسويات في لبنان، ستزكّي اسم رئيس للجمهورية يرتاح إليه عون، فيرعى في عهده تطبيق الاتفاق، وقد يتابع المسار نحو تسويات أخرى مشابهة، وتحظى بتوافق داخلي ومباركة خارجية؟

 

 

في هذا المعنى، يبدو طبيعياً وجود ترابط بين إنجاز اتفاق الترسيم وإنجاز الاستحقاقات الدستورية، من انتخاب رئيس جديد للجمهورية إلى تشكيل حكومة فاعلة. وعلى الأرجح، سيستفيد المنتصرون في ملف الترسيم من زخم انتصارهم لتسجيل نقاط أخرى، كاختيار رئيس للجمهورية وتشكيل حكومةٍ جديدة يرتاحون إليهما. وهذه المرَّة، سيحظى هؤلاء بمباركة القوى العربية والدولية المعنية بإدارة اللعبة.

 

 

ولكن، هل يعني ذلك أن القوى النافذة سلَّمت أمر لبنان مجدداً إلى السلطة إيّاها التي أوصَلته بفسادها وجهلها وعجزها وخلافاتها إلى الكارثة، لمجرد أن هذه السلطة سهّلت تقاطع المصالح الدولية والإقليمية، من خلال التوقيع على اتفاق الترسيم؟

 

 

على الأرجح، نعم. ففي النهاية، تُبنى العلاقات بين الدول على المصالح لا على المبادئ. ويتم التعاطي دائماً مع الأقوياء، إذا تبيَّن أن لا مجال لاستنهاض الضعفاء، أو لا وقت لذلك أو لا أمل. والقوى الدولية النافذة تتعاطى اليوم على السواء مع دول ديموقراطية راقية يسود فيها القانون وتحترم حقوق الإنسان، كما تتعاطى مع أنظمة متخلفة ومُستبدة.

 

 

ولذلك، إذا كان خريف 2022 سيشهد استحقاقات مفصلية فعلاً، من الترسيم إلى الانتخابات إلى تشكيل الحكومة إلى بداية النهوض المالي والاقتصادي، أي إنه سيشهد انطلاقة الدولة من جديد، فهل يمكن الرهان على أن هذه الانطلاقة ستكون إصلاحية، بحيث لا يتكرَّر سيناريو الفساد السابق - الحالي؟

 

 

وفي عبارة أخرى، هل يمكن الرهان على منع الطبقة السياسية المقيمة من ابتلاع المليارات الآتية كما ابتلعت المليارات الراحلة؟ وهل من ضمانة لحماية موارد الدولة والشعب في حقل «قانا» وسائر بلوكات النفط التي ستُفتَح تباعاً؟