يمكن القول اليوم بعد هيمنة الثنائية الشيعية (حزب الله وحركة أمل)على مختلف مفاصل الدولة اللبنانية، وعلى الرغم من ذلك، فلا برامج واعدة لحزب الله في إدارة الحكم وتسيير شؤون المواطنين الصابرين الغافلين، ولا رؤى جديدة فاعلة لدى حركة أمل تُطرح للنقاش والإسترشاد بها، في ظلّ تعثّر انتخاب رئيس جديد للبلاد، فضلاً عن الشلل التام في كافة مؤسسات الدولة اللبنانية الشرعية، لذا ليس غريباً أن يحصل هذا الفصام المتفاقم بين القيادة السياسية لدى التنظيمَين والجماهير الغفيرة للطائفة الشيعية، كما بات ضرورياً إعادة التذكير والتّأكيد أنّ المعتقدات(أي الإيديولوجيا) التي تحكم إرادة وسلوك التنظيمين هي واحدة، بعكس ما يوحي التنافس بينهما في مجالاتٍ عدّة، فحركة المحرومين التي قادها الإمام "الغائب" موسى الصدر أواخر ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كانت حركة إسلامية إحيائية، استمدّت عصبها ونُموّها وازدهارها من النهوض الإحيائي العام في طول العالم العربي والإسلامي وعرضه مع بداية السبعينات، والتي عُرفت فيما بعد بالصحوة الإسلامية، فقد عانى العالم العربي والإسلامي منذ تلك "الصحوة" من سقوطٍ مُريعٍ للفكر القومي، واختلالٍ عميقٍ في بُنية الدولة القوية، وترافق ذلك مع صعود تياراتٍ إسلامية مُقدّسة وقوية في إيران وباكستان وافغانستان والسودان ومصر والمغرب العربي، فبعد أن كان هذا الفكر مُحاصراً في الجزيرة العربية، في فترة صعود الفكر القومي وقيام جمهورياته، خرج فاتحاً ومُبشّراً في أقطار المشرق العربي ومغربه ليمتدّ فيما بعد إلى العمق الآسيوي والإفريقي، مُستفيداً من الطفرة النفطية التي سمحت له بالإنفاق الباذخ على تياراته ومؤسساته ومطبوعاته ومساجده وجماعاته. ضمن هذا الإطار العام، ومع خصوصياتٍ تمتاز بها الطائفة الشيعية على مدى التاريخ الإسلامي، تمكّن الإمام موسى الصدر أن يُبدعَ توالفاً عجيباً من الإحيائية الإسلامية العامة، مع دعوة جهادية لشيعة لبنان "المحرومين": سياسيّاً وطائفياً وإنمائيّاً، ونجاح هذا التوليف، يسيرٌ جدّاً، لأنّ الشيعة عانوا على مدى عصورهم من النبذ والإضطهاد والحرمان، وتُشكّل مجالس العزاء الدائمة عندهم مناسبة عزيزة لِتذكّر مآسي الماضي والإنتفاضة ضدّ الظلم والطغيان، وتبلغ هذه الشعائر ذروتها في أيام عاشوراء، ذكرى مصرع الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. استفادت حركة "المحرومين" التي أسّسها الصدر من ضمور التيار الوطني والقومي العام الذي ساد في لبنان بعد هزيمة العرب أمام إسرائيل عام ١٩٦٧، ودخول المقاومة الفلسطينية إلى ساحته، وقد بدا الضمور واضحاً أواخر سبعينيات القرن الماضي وبداية ثمانينياته، ولم تنفع كل دعوات استنهاضه من سُباته، فقد عانى من بُنيته التنظيمية الهشّة، ونزاعات فصائله المتعددة، ولم ترحمه المقاومة الفلسطينية التي راحت "تُفرّخ" تنظيماتٍ خاصة بها على مقربة وتداخلٍ من تنظيماته، وعليه نجحت حركة المحرومين بقيادة موسى الصدر حتى لحظة اختفائه، وبقيادة الرئيس نبيه بري بعده في سحب البساط الشيعي الرحب الذي كانت تتمدّد عليه تنظيمات الحركة الوطنية، واجتذبت حركة المحرومين إلى صفوفها العناصر الفتيّة الشابّة، لتتحول غداة اجتياح إسرائيل للبنان عام ١٩٨٢، حركة سياسية كاسحة، مُسلّحة ومُنظّمة، تملك رؤى واضحة في مقاومة إسرائيل، يعضدها تحالف استراتيجي مع سوريا، وتوّجت زعامتها الطائفية "والوطنية" في انتفاضة السادس من شهر شباط عام ١٩٨٤، ودخل بعدها الأستاذ نبيه بري الحكم من موقع المُصرّ على امتلاك موقع أساسي، وشريك ممتاز في إدارة الحرب الأهلية التي كانت مُستعرة يومها، وخاصةً أنّ أرض الجنوب( معقل الحركة) كانت رأس الحربة في المواجهة الوطنية والقومية ضد إسرائيل. عانت حركة أمل مع صعود تيارها بداية ثمانينيات القرن الماضي من غياب المرجع الديني والروحي(موسى الصدر ) ذي الشخصية الجذابة والفاعلة، لذا أمكن لتيار "العلماء" المرتبط مباشرةً بالثورة الإسلامية الظافرة في إيران، أن يطرح مشروعية امتلاك ناصية الخطاب الإسلامي في الساحة السياسية الشيعية، فكان لظهور الإمام الراحل محمد حسين فضل الله أثراً كبيراً لتبلور حركة إسلامية ناهضة، يمكن تصنيفها كحركة أصولية داخل حركة المحرومين، بمعنى أنّها جاءت لِتُقوّم الإنحراف داخل الطائفة، ولتندفع قُدُماً في طرح أفكارٍ ومعتقداتٍ إسلامية خاصة، وإشاعة سلوكيات "إسلامية" تعود للقرون الهجرية الأولى، مُتظافرة مع سلوكيات إسلامية خاصة بالمجتمع الإيراني الصفوي، وسرعان ما وُظّفت هذه الاندفاعة الإصلاحية "الأصولية" في آنٍ معاً، في طرح المشروعية السياسية للسيد نبيه بري، وبذلك أمكن الخروج على الوحدة التنظيمية، وعلى الوحدة المذهبية للطائفة، وتأسيس حركة جديدة تبلورت فيما بعد بالحزب الذي اختار اسماً له هو"حزب الله"، لتبدأ بعد ذلك منافسة جديدة بين تنظيمين في الساحة الشيعية، يتصارعان لامتلاك ناصية القرار الشيعي، ودفعت الطائفة ثمن هذا الصراع أثماناً غالية، وما زالت تدفع حتى الساعة، وهي تتطلّع إلى المستقبل بأعيُنٍ مشدوهة وأنفاسٍ محبوسة، فلا فكر القرون الأولى للهجرة ينفعها ويُرضي طموحاتها، وهي لا تحلم بالطبع بمقوامة أبدية مع إسرائيل، فهي ما زالت حائرة مُستنفرًة وقلِقة، وخلاصها لا يكمُن بالطبع بين كماشة الذين كانوا "محرومين" فأسبغ الله نِعمَهُ عليهم، ولا بين حمَلة شعارات المقاومة والممانعة حتى لا يبقى حجرٌ على حجر، في وطنٍ شارف على الهلاك، اسمه لبنان.