حينما عبر العالم الألفية الثالثة، هل بقيت النعرة القبلية خارج حدود الزمن الحاضر؟. سؤال واجهناه في دارة رجلٍ كريم تجمع نخبة من المثقفين والمؤدلجين ومن ينتمي إلى أحزاب وجمعيات دينية، وبعض من الزائرين المجنِّسين بالجنسية الألمانية منذ نصف قرن وأكثر، وما زالوا مدججين بأحزمة قبلية ناسفة وبقنابل تعصبية مميتة!. دار الكلام والحديث بيننا على أن يكون من أهم مرتكزات الشفافية ممارسة "نقد الذات" فهل نملك هذا الحس بالنقد الذاتي كما حصل عند العقل الغربي بعد صراع طويل من حروبه وإخفاقاته، وكيف نفض الغبار عن تاريخٍ دموي ونهض على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من خلال فتح تاريخهم من دون أن تعود معهم العنصرية والتعصب القبلي كي ما يعيشوا مأساة الحروب والنزاعات والتقاتل فيما بينهم، بل من أجل النهوض إلى تأسيس قوانين وأنظمة تحفظ الحقوق والحريات، كل ذلك هو إخضاع لثقافة النقد الذاتي، وهذا ما ترجمته تلك الثقافة الناقدة لذلك التاريخ عبر سردها إن كان عبر الكتَّاب المثقفين تحت عناوين صحفية أو كتابات روائية أو عبر السينما التي تعرض أفلاماً تعكس تلك النزاعات والخلافات التي أدَّت إلى التقاتل والخراب والدمار، وتحتفل بتاريخ الغزوات بين قبائلهم القديمة، فمثلاً عندما يعرض المخرجون أفلام الحروب بين دولتين تناطحتان قديماً ـ فرنسا وبريطانيا ـ ومع هذا فلا تخشيان من إثارة الفتنة بين الشعبين. وما شاهدناه من فيلم في زمننا الحاضر ـ إليزابيت الثانية ـ الذي يصوِّر حياة جدتها (آن بولين) التي أعدمت بعد فضيحتها مع أخيها، لم تعترض الملكة إليزابيت الثانية، ولم تتدخل رغم نفوذها لإيقاف عرض الفضيحة للجدة، وطمعها وجشعها وظلمها لأخيها، لم تحدث ضجة عائلية ولا بلابل وقلاقل وضوضاء وفتنة. وأيضاً، نرى كيف يصل إلى سدَّة الرئاسة رجل أسود في أعظم دول العالم بالرغم من عنصرية البيض ضد الحمر والسود، وكيف نرى الدخان الأبيض في الفاتيكان عندما يتنحى حبرٌ أبيض، ويأتي حبرٌ أسود أو أحمر، المهم هنا كيف أنهم جسدوا انهاء العنصرية والنعرة القبلية والعنصرية في قوانينهم الرسمية. أما في واقعنا العربي والإسلامي وبالأخص في المجتمع اللبناني، نرى المعرفة الثقافية تنكمش، تتقلَّص، عناوين فضفاضة، برَّاقة، عندما تفتح التاريخ تشرأب الأعناق، إياك أن تتعرَّض لتلك الحادثة التاريخية التي جرت بالغزوات والمعارك، لأنَّ ذلك يحدث فتنة، إياك أن تكتب عن سياسي تاريخي فهذا يسيء له، وهذا البرنامج يسيء لحقبة مريرة ويحدث فتنة، وهذا الكتاب يسيء لمفتي الكون، وهذه المادة لا تتعرَّض لها ستثير فتنة طائفية ـ محلية أو عابرة للقارات ـ وهذا الفيلم والمسلسل التاريخي سيعيدنا إلى زمن القبيلة، وهكذا دواليك مع دواليبك. يقولون: إذا كان لكل أصحاب حدث سلالة تمنع تداوله، فمتى تُسرد الحكاية؟. إنه الفيروس الثقافي الموجود في أدبياتنا ونضالاتنا، وحتى في مذكرات المناضلين القوميين الذين خاطروا بتاريخ أجيال على حساب أيديولوجية وهمية، وفي لبنان لا دولة ولا قانون ولا دستور، وخراب بخراب، وفساد بفساد وإفساد، وفقر وحرمان، ونفاق ودجل، وهرب وجرب ـ لائحات طويلة ومطولة ـ ماذا أضافت أحزابه المؤدلجة والمعلمنة، التي لا تقبل إلا أن تكون منتصرة ـ إقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وأخلاقياً وسياسياً ـ وعلى كافة الأصعدة ـ والبلد إلى قعر جهنم وبأس المصير، فكل حزبٍ فيه هو القانون والدستور، وكل زعيمٍ فيه هو ربٌ القوانين والدساتير. قبل أن ينكسر قلم الوجع، فإنَّ النقد الذاتي المفقود تماماً في أدبياتنا التاريخة والسياسية والاجتماعية والثقافية، يجب أن تكون هو الدواء المطهَّر لجراح الدُّمِّل والمرض، وهو العلاج الحضاري لكل كوارثنا وآلآمنا وأوجاعنا التي ما زالت قابعة على صدر تراب الوطن، فأي كارثة تمر من دون هذا النقد، فهذا يعني اختفاء المرض داخل الجسد المريض الهزيل. نعم العقل الغربي (الكافر الملعون) سكن النجوم والكواكب، ونحن ما زلنا نسكن لعنة التاريخ الذي نغوصه في رماله خوفاً ولربما خجلاً، ومع ذلك نتسابق على يملك الحظ الأوفر في الامتداد القبلي والديني والطائفي.. الشيخ عياس حايك