هناك أمر أكثر أهميةً وجدوى يمكن لنواب المعارضة وأحزابها أن يفعلوه، غير الاعتراض على الخط 23 والتأسف على الخط 29.


لإعطاء المعارضين حقَّهم، يمكن القول إنّ المزيج من الجهل والإهمال الذي تعاطت به هذه الطبقة السياسية في ملف الترسيم، مع قبرص أولاً، ومنذ 15 عاماً، أوصل لبنان بنفسه إلى «تخسير» نفسه مساحةً هائلة هي أساساً حقّ له، ويقع فيها حقل «كاريش». وليس أمراً بسيطاً أن يخسر لبنان هذه المساحة الهائلة بمواردها التي تقدّر بعشرات مليارات الدولارات.


ولكن، ما أجبر لبنان اليوم على القبول بالخط 23 هو أنّه نفسه يتبنّاه كوثيقة في الأمم المتحدة، وأنّ اتفاق الإطار الذي انطلقت منه مفاوضات الناقورة تبنّاه أيضاً، والقوى الدولية كلها تتبنّى هذا الخط. والأهم، لأنّ لبنان عاجز تماماً عن المطالبة بحقوقه الكاملة بسبب الانهيار المريع الذي أوقعته فيه هذه الطبقة السياسية.

 

إذاً، تأخّرت المطالبة بتصحيح الخطأ سنوات عديدة، كان ممكناً خلالها أن يتجرأ لبنان على القيام بذلك، لأنّه كان يتمتع بجانب من القوة المالية والاقتصادية التي تسمح له بمواجهة إسرائيل والقوى الداعمة لها. علماً أنّ هذه «القوة» المالية والاقتصادية كانت مصطنعة وتعتمد على دعم القوى الدولية ذاتها. فما أن أوقفت هذه القوى دعمها وقروضها حتى وقع الانهيار اللبناني.

 

من المحزن أن يكون مطلوباً اليوم صمت اللبنانيين غير المستفيدين من الفساد، والمراهنين على الاستفادة من ثرواتهم النفطية لبناء مستقبل زاهر لأولادهم يوقف هجرتهم قرفاً وإحباطاً. ولكن، ما كُتِب قد كُتب. والخط 23 بات أمراً واقعاً. فهل ما زال هناك ما يمكن لقوى المعارضة والإصلاح أن تقوم به خارج المطالبة بالخط 29؟
بالتأكيد، لم يعد هناك مجال لتجاوز الخطأ الذي دام نائماً 15 عاماً حتى تمّت الاستفاقة عليه الآن، و»دفعة واحدة». ومسؤولية القوى الإصلاحية اليوم تقضي بأن تشرف على طريقة إدارة ملف الغاز عموماً، وأن تدرك كيف سيتمّ توزيع عشرات المليارات من الدولارات، المنتظرة من الاستخراج.

 

اليوم، بات أجدى للمعارضة أن تتوقف عن «الترحُّم» على الخط 29 أو المطالبة به، لأنّ الأمر لم يعد واقعياً. والأحرى أن تكلّف الحقوقيين والخبراء أن يدقّقوا في نص الاتفاق الذي بات معلناً، لعلّ هناك تفصيلات تقنية ملتبسة أو ظالمة للبنان، ويمكن تصحيحها قبل التوقيع. وهذا الأمر قد يكون ممكناً حتى اليوم.


ولكن، الأجدى بالتأكيد هو وضع الملف النفطي قيد الرصد والمتابعة، بحيث يتمّ إنجاز التشريعات اللازمة لإدارة الملف في دائرة الضوء والشفافية، فلا يتقاسم أركان طبقة الفساد عشرات المليارات من الغاز كما تقاسموا عشرات المليارات التي نُهبت من الدولة والمالية العامة وأموال اللبنانيين في المصارف وخارجها.

 

في المنطق، لا يمكن تسليم هذه الثروة الوطنية الهائلة لفئة ما زالت تتجنّب تلبية أي شرط إصلاحي يطرحه المجتمع الدولي وصندوق النقد الدولي، وهي نهبت ودائع الناس، وما زالت، بالتحايل عاماً بعد عام.


فكيف تؤتمَن على عشرات المليارات سلطةٌ لا تريد حتى إقرار موازنة، ولا تُجري كشف حساب لأعوام طويلة، وتتجنّب استرجاع الأموال الحرام المهرّبة إلى الخارج، ولا توقف التهريب، وترفض الكابيتال كونترول وتتلاعب بأسعار الصرف لخداع الناس واستكمال نهبهم؟


هنا يكمن الوجع الأكبر في ملف الغاز الآتي. وكان مثالياً لو تمّ تغيير هذه الطبقة التي تعترف هي نفسها بفسادها علناً، قبل أن يصل لبنان إلى التنقيب والاستخراج. لكن حكاية الانتخابات والتغيير معروفة، ولا داعي لتكرارها. وهنا أيضاً، ما كُتِب قد كُتِب.
وإذا كانت قوى المعارضة تريد فعلاً أن تقوم بعمل مُجدٍ، فالأحرى أن تضع ثقلها في هذه النقطة تحديداً: توفير الشفافية لإدارة ملف النفط وضمان أن تبقى أمواله ملكاً للشعب اللبناني، فلا تكون هذه الأموال قالب حلوى جديداً يغطي به الفاسدون ما فعلوه سابقاً ويقيموا حفلة تقاسم للمستقبل.


ما يُخشى اليوم هو أن تأتي المليارات من «قانا» وسواه إلى جيوب الحيتان مباشرة، فيوزعوا منها على الناس من الفُتات ما يسمح لهم بالبقاء على قيد الحياة، وتُموَّل دورة الفساد مجدداً لسنوات، أي يذهب الباقي مجدداً إلى الجيوب التي بقيت اليوم مملوءة ومخبأة في أمكنة آمنة.


إنّها مسؤولية أصوات المعارضة والتغيير الحقيقية، بعيداً من الاستعراضات الكلامية والمزايدات والبطولات. والفرصة سانحة للقيام بما هو مُجْدٍ، سواء في الأيام القليلة المقبلة قبل التوقيع أو في السنوات القليلة المقبلة قبل بدء الاستخراج.