رفع القرآن الكريم القيود الضيقة والأغلال الثقيلة التي تفرضها السلطات الدينية والسياسية على عقول الناس
 

بينما كنت مسلتقياً في فراشي ما بين صلاة الفجر وبزوغ ضوء الصبح ، تستيقظ عصافير الورد والشوك والتين والزيتون ، وهي تسمعك زقزقة تشبه ترانيم الشكر والتسبيح وكأنها تسبِّح وتشكر خالقها لأنها تنعم بحرية وهي تطير من غصنٍ إلى غصنٍ ومن شجرة إلى شجرة في فضاءٍ صافٍ غير ملوَّث بأنفاس الخلق ومن ضجيج البشر.
وسمعتُ صوت هرَّة تموء مواء ... فرابني حالها وهي تنظر إلى العصافير ، وتحاول أن تتسلَّق الأشجار ، لكي تروي جوعها ، فهالني ذلك المنظر وأهمَّني همَّها ، وأسرعت لها بطعامٍ ، وعندما حفلت به هدأت وهي تنظر نحوي بنظراتٍ تشمل حزناً وتحمل همَّاً من الآلام والأحزان ، وبعدها نظرت إلى الفضاء ورأت وجه السماء فاستحالت أحزانها إلى فرحٍ وسرورٍ، وكأنها إنتقلت من سجنٍ إلى فضاء الحرية.

إقرأ أيضا : شيعي باللون الأسود
إنها من العجماوات تفهم معنى حريتها حقَّ المعرفة والفهم ، بينما ما زال العقل البشري يحار في معناها وفهمها ، أن يكون الطير والحيوان الأعجمان أوسع ميداناً ومعرفةً في الحرية من الحيوان الضاحك والناطق.
في حين أنَّ الطير يحلِّق في سماء دنياه من دون قيدٍ وشرطٍ ، وتسبحُ الأسماك في أعماق البحار من دون قيدٍ وشرطٍ ، وترى الوحوش تهيم في غاباتها وأوديتها وجبالها وسهولها كذلك ـ قصة مستوحاة من نظرات المنفلوطي ـ بينما بقي عقل الإنسان في الفكر الديني يعيش رهين نصٍ تاريخيٍ وهاجس خوفٍ على الهوية والذات والدين ، فبقي رهين تلك المحابس من المهد إلى اللحد ، وصنع للإنسان الضعيف سلاسلاً وأغلالاً وسمَّاها تارة قوانين سماوية ، وأخرى نواميس دينية ليظلمه باسم العدل ويسلب منه أغلى وأثمن جوهرة خلقها الله له.
وصنع له هذه الآلة المخيفة والمرعبة وأفسد عليه وجدانه ، وملأ عقله وقلبه رعباً وخوفاً ، فأصبح لا يفكر ولا يتكلَّم ولا يكتب إلاَّ كما يريد الفقيه والزعيم والرئيس والحاكم الديني والسياسي ، فوضعوه في القماط  كما الطفل ، وكفَّنوه كما يكفِّنون الموتى ، فعاش في ظلامٍ دامسٍ وحالكِ ، أوله من ظلمة الرحم وآخره بظلمة القبر.

إقرأ أيضا : نصرات قشاقش ينشر الجهل في مجالس الإمام الحسين .... الأضاليل العلمية التي قالها
وعاش بينهما يقيم على نفسه حارساً يراقب أعماله وأفعاله وأقواله ، وشرطيَّاً آخر يراقب خياله ووهمه ، لينجو من عقاب المستبدِّين وأزلامهم وأتباعهم وأحزابهم ، فبات أسيرها لينحت منها ما يصلح ويلزم لعبادته وآمن بها كصراطٍ وسبيلٍ للوصول إلى داري الدنيا والآخرة ، بلا قائد أو فقيه أو رئيس يرشده فهو ناقص العقل والدين لأنه من مات ولم يعرف الحاكم مات ميتةً جاهلية جهلاء.
وما زالت تُسنُّ الشرائع تحت ذريعة أنه قاصرٌ عن إدراك المصلحة والمعرفة في الحياة لإحراز الأمن والفوز في دار الآخرة ، وما زالوا واهمين وواهنين أنَّ تلك الشرائع هي أثبت من السماء والأرض ومن الشمس والقمر والأفلاك ، وهم يعلمون حقَّ العلم أنه ما من شريعة بشرية إلاَّ تُداس في اليوم ألوف المرَّات فإن لم تكن جهراً تراها سرَّاً وفعلاً وفكراً ، وأقاموا حولها سياجاً لا يترك لهم منفذاً لأي متمرِّد ، ولا مهرباً لأي عاصٍ ، وقد فاتهم أنَّ العصيَّ هو ذاك العقل الذي لا يحصره سياج فقيه ولا يقيِّده شريعة رئيس. فلا يمكن لأحدٍ أن يقضي على نور الشمس إلاَّ إذا منعها من الإشراق ولا يقضي على موج البحر وطير السماء لأنَّ كل ما في الوجود هو حرٌّ بأصله لأنه نعمة من نعم السماء وهبها الله في الحياة.ولا يحقُّ لأحدٍ من أهل الأرض إرهاب الضمير والوجدان والفكر والعقل تحت أي مسوِّغٍ وذريعة ٍ.

إقرأ أيضا : فضيلة الشيخ قاسم ... هل المُطلّقة والأرملة والعانس هُنّ العلّة؟
بهذه النظرة رفع القرآن الكريم القيود الضيقة والأغلال الثقيلة التي تفرضها السلطات الدينية والسياسية على عقول الناس ، وهذا ما عبَّر عنه عملاق التاريخ علي بن أبي طالب (ع) بقوله: " لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرَّاً " وصوَّرها العبقري الفرنسي "جان جاك روسُّو" منذ قرنين بقوله: " إن إيماننا بالإنسان ، وولاءنا  للإنسانية ، هما اللذان يثيران في طبيعتنا الخيِّرة أعمق الدوافع لأن نجعل من البليد المسخَّر إنساناً بشريَّاً نابهاً ".