الصوم حقيقة دينية سماوية ثابتة ، ولذا يصوم أصحاب الشرائع والديانات والملل والنحل مُـدداً مختلفة ، ولها مواعيدها وطقوسها الخاصة بها. وعلى سبيل المثال لا الحصر، الصوم الكبير الذي تمارسه الطائفة المسيحية الكريمة على اختلاف اتجاهاتها وتنوعها، والذي يُعتبر عندها من أشهر وأقدم أنواع الصوم، إضافة الى ضروبٍ أخرى من الصوم يباشرونها ويمارسونها حتى اليوم لما لها من فوائد وايجابيات على النفس والروح والجسد. وهنا تظهر آثار الصوم على متطلبات الجسد وتجليات الروح وتأثيره على كليهما. فالكيان الإنساني هو ذلك الحيّز أو المكان –اذا صح التعبير- الذي يتصارع فيه كلّ من الجسد والروح وفيه من شهوات الأرض ورغبات النفس ونوازع الشر التي تعبّر عن تعلّق وتمادٍ وارتباط الجسد فيها، وهناك تجلياتٌ ونفحة من روح الله تنبعث منها سبحات العقل وتأملات الفكر وسمو الروح فيضاً وصفاءً وطهارةً ، وهذه بطبيعة الحال من صفات ولمسات تألّق الروح.  فرحلة الصوم بين جسد بطبيعته يريد أن يخلد الى الأرض وينجذب نحوها لارتباطه بعالمها المادي المثقل بالتحديات والقيود التي تحكم واقعه لاشباع رغباته وميوله الشهوانية التي يعمل الصوم على ترويضها منتشلاً بذلك الجسد من وحول انغماسه الحيواني كي يرتقي به الى قمة الكرامة الإنسانية وتغليب نوازع الخير فيه والارتقاء به نحو الكمال لكي ينسجم مع صفات الروح. فالجسد الماديّ المركّب من البسائط الأرضية خاضعٌ لأحكامها، وبحكم فطرته المركّبة سائرٌ نحو الاستحالة والانحلال والتلاشي والإضمحلال الى أجزائه البسيطة السابقة. وأماّ الروح المشرقة والشفافة وبوحي من تأثير فيوضات الصوم عليها تحاول دائماً أن تكسر قيود أسرها من ذلك الجسد المادي الذي أتعبها وأثقلها بخلوده وانغماسه في الانحطاط. ولأن الجسد بشهواته ونزواته الذي يسجن الروح الشفافة عن التوثب والانطلاق والصعود نحو الأعلى. فالجسد والروح ثقلان متأرجحان ككفتي ميزان ، لا تثقل هذه الا وتخف تلك، وبطبيعة الروح النيّرة والتوّاقة الى الشرف والكمال للإلمام بأسرار الملكوت عبر رحلة صومها الذي يدفع بها نحو الإرتقاء والتحلّق. ومن هنا نجد في الناس من غلبت عليه مادتُه , فوهب نفسه لها , لا يفكر إلا في إشباع غرائزه واتخذ من الصوم ستاراً وغطاءً من خلال موائد اختلفت وتنوّعت فيها الأطعمة والأشربة وما لذّ وطاب وكيفما أمكن ذلك الأشباع , فهزلت روحُهُ وتضاءلت فُرصُ الأستفادة من الصوم بأبعاده الروحية والمعنوية والتربوية والاجتماعية وما يتركه من آثار إيجابية على النفس والروح وصحة وسلامة الجسد. وبالتالي ليس الهدف من هذه التحديات, إلا حصول الموازنة, بين الروح والجسد في ضمن مناخ قانوني يسنح لروحه وجسمه معاً أن يعبراعن سجيتهما ويبلغا أقصى مدى إمكانيات النبوغ والرشد والسمو نحو الكمال والفضيلة .   بقلم الشيخ محمد حسني حجازي