قال: وما الفلسفةُ إذًا؟ قلتُ: سؤالك مسألةٌ فلسفيَّةٌ قائمةٌ بذاتها؛ إذ قلَّما تجد عند فيلسوفٍ واحدٍ تعبيرًا مطابقًا لما تجده عند آخر. لكن، إذا ما استثنينا التراث الأرسطيَّ، يصير بالإمكان جمعُ أقوالٍ متقاربةٍ أو متكاملة. قال: دعنا نرَ لماذا تستثني التُّراث الأرسطيّ. قلتُ: لأنَّ أرسطو كان بالأحرى معلِّما للفلسفة ومؤرِّخًا. والتعريف المتداول عنه: "الفلسفة علمُ الكائنِ بما هو كائن" والآخر القائل: "البحثُ عن المبادئ والعلل الأولى"، قد أحدثا التباسًا كبيرًا طوال ألفي عامٍ بسببٍ من اشتراك معنى العلم، أو بسببٍ من الإضافات التي فرضتها ظروف الكلام. -وبدءًا، ليس العلمُ بمفهوم أرسطو هو العلمُ بمعناه الحديثِ القائمِ على الفرض والتَّجريب. أضف أنَّ عبارة "بما هو" أو "من حيث هو" أو "من جهة"، ليست موضوعَ علمٍ بالمعنى المتعارفِ عليه اليوم، وعبارةٌ تحتمل تأويلًا متنوّعًا تِبْعًا لظروفِ المتفلسفِ الذي لا يتَّسع وقتُه للتأمُّل أو لرعايةِ "الدَّهشة" التي بها يبدأ التفلسفُ على حدِّ قول أرسطو نفسِه (وهو قولٌ جرى إهماله عند الوَرَثة). -إلى ذلك، كان البحث عن المبادئ والعلل الأولى في ذهن أرسطو بحثًا عن الحقيقة، أي بحثًا منزَّهًا عن أيِّ غرضٍ آخر. ويكفي أن نقرأ إضافةَ ابن رشدٍ، أكبر شارحي المعلّم الأوّل، لنفهم كيف تمّ تسخيرُ النَّشاطِ العقليِ في خدمةِ غرضٍ آخر. يقول ابنُ رشد: "فعلُ الفلسفةِ ليس شيئًا أكثرَ من النَّظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع". لهذا السَّبب لا يفيدنا الإرثُ الأرسطيُّ في التقدُّم بحثًا عن حلٍّ للمسألة. بل إنَّ من تابع الموسوعيَّةُ الأرسطيَّة من مثال هيغل قد صعَّب الأمر أكثر حين عدَّ الفلسفةَ علمًا بامتيازٍ وعلمانًا مطلقًا، وأنزل سائرَ العلومِ إلى الاهتمامِ بالجزئيات. قال صاحبي، وقد بدا عليه الانزعاج من هذا الاستطراد، لكنَّ هيغل أنهى الفلسفةَ أو خَتَمَها الى غيرِ رجعة. قلتُ: إلى حدٍّ ما لا زلنا ندورُ في الفلك الهيغلي. بدءًا من قولةِ ماركس القاضية باستبدال مهمَّةِ تفسيرِ العالمِ بمهمة تغييره. وها العالم ما زال يتغيّر من تلقائه وما زلنا نلهث في محاولة تفسيره. قال: لكن إن رفعتَ الإرث الأرسطيَّ ماذا يتبقى لك من الفلسفة. قلتُ: تبقى الفلسفةُ وحسب. بصرف النظر عن تأريخها و تلخيصها. ويتبيَّن لنا رسمٌ مختلفٌ لها. رسم يميِّز بينها وبين العلم أصلًا. فالفلسفةُ ليست علمًا، بدءًا من رسمها عند أفلاطون وصولًا إلى ما يخبر عنها جيل دولوز، مرورًا بالدهشةِ الأرسطيَّةِ وإقامة الحدِّ الفاصل الكنطيّ. قال: هل يتَّسع وقتنا لبعض تفصيل؟ قلتُ: في محاورة السِّياسيّ ينبِّه أفلاطون إلى أنَّ الهدفَ من الحوار ليس علم ما هو السَّياسيّ بل التمرُّن على الجَدَل. و يُقيم كنط حدًّا فاصلًا، في كُتُبه النَّقدية، بين الفلسفةِ والعلومِ، من حيث مجال الاهتمام ومن حيث المهمة المقترحة على كل من النَّشاطيْن الفارقيْن. ويقرِّر هيدغر نفسُه أنَّ سؤال: ما العلم؟ ليس سؤالًا علميًّا. و يعيد نيتشه العلماءَ إلى الخدمةِ ويُعلن ذاتيَّةَ الفيلسوفِ في مواجهة الانبهار بالعلم. وإذا كان برتراند راسل لا يزال يسعى الى إنشاءِ "فلسفةٍ علميَّةٍ"، وكان الوضعيُّون المنطقيًّون يضعون التَّفلسفَ في خدمةِ القولِ العلميِّ؛ فإنه يجبُ انتظارُ ترهُّلِ القرنِ العشرين ليعود ميشيل فوكو من حفريّاتِهِ الأمپيريَّة ويُعلن أنَّ تلك الحفريّاتِ لم تكن سوى تمارينَ على القول الفلسفيّ. ويتساءل: ما التفلسفُ إنْ لم يكن محاولةَ التَّفكير بطريقةٍ أخرى.. والانتظار ليعلن جبل دولوز: إنَّ الفلسفةَ إبداعُ أفاهيم. وإذا ما انتبهنا الى أنَّ الأُفهوم، عند ج. دولوز، لا يعدو كونه أفعولَ تفكيرٍ خاصٍّ، أو حدسًا رئيسًا يعيّن مجالَ اشتغالِ أفاعيلِ التَّفكير، ندرك أنَّ رسمَ الفلسفةِ عند كبار المتفلسفةِ يفرق أصلًا عن رسم العلم، وعن رسمِ أيِّ نشاطٍ ذهنيٍّ آخرَ، و يمكننا القول: ليست الفلسفة علمًا من العلوم وليست من ثمّ تِقَانةً في خدمةِ نشاطٍ آخرَ، أو كما أحب دائمًا أن أقول ليست الفلسفةُ خبرًا عن العالم. قال صاحبي، وقد أعياه طول الانتظار: لكنَّك ما زلت تعرِّف الفلسفة بالسَّلب، ولم تعلن لنا بعدُ ما هي الفلسفة؟ قلتُ: ليس مدارُ القول هنا على ماذا قد تكون الفلسفة، بل على ما ليست هي. وجلُّ ما يمكنني الآن هو أن أشير إلى الفلسفة بوصفها مجموعةَ النُّصوص التي وصلت إلينا من كبارِ الفلاسفة ومنها بالتحديد الفلسفة الأولى وما أسماه بعضهم: الميتافيزيقا، أي ما يتعدَّى الفيزيقا أي عالمَ التَّجربة العلميَّةِ واليوميَّة، وأن أشير إلى الفيلسوف بوصفه ذاك الذي يحظى بمريدين خارجَ منطقةِ تداوله اللغويّ. قال: بمعنًى آخرَ تريد أن تقول أن ليس لدى عرب العصر فلسفةٌ ولا فلاسفة. فلت، بل مجرَّد حاجةٍ الى الفلسفة وبعطٍ باتجاهها. موسى وهبي