إنَّ كلمة دولة تعني أن يكون لها حدود وتكون لها هوية ونشيد قومي وعلم مرفوع فوق سارية وقانون ودستور وقائد أو رئيس يبايعه الناس على القيادة والرئاسة ، وهي شروط تتوافر لكل دولة في العالم ، سوى الدول العربية ومعها الدول الإسلامية التي ترتفع فيها أصوات المؤذنين في الجوامع ثلاث مرات أو خمس مرات في اليوم ،وترتفع فيها أصوات الناحبين والباكين ولبس السواد والحداد..وترتفع الرايات والنداءات عبر مكبرات الأصوات النقَّالة في الشوارع والطرقات والأناشيد الحماسية والجهادية الداعية إلى حفظ القائد والزعيم والرئيس والأمين العام والمأمون الخاص، التي تجول وترتفع من أعلى مواقع المدن والقرى والأندية معلنة ولاءها الأعمى لدولة خفية لا تعترف بحدود أو نشيد قومي أو علم أو قانون ودستور.. وما نقرأه عن الدولة الأموية والدولة العباسية والدولة الفاطمية والدولة البويهية ودولة المرابطين ودولة الموحدين وغيرها ليست شيئاً آخر غير معنى الأسرة الحاكمة في مجتمعنا السياسي المعاصر، وليست الدولة بمعنى الهوية والسكان والإقليم والأرض التي هي من المكونات والعناصر الأساسية للدولة..لأنه تاريخياً لم تكن هناك دولة إسلامية بقدر ما كان حكومة إسلامية والتي تستوعب فترة إقامة الرسول (ص) والصحابة في المدينة المنورة والخلافة الراشدة. وهذا يؤول إلى نفي الدولة بحسب التقسيم في التراث الفقهي متردداً بين (دار الإسلام) (ودار الكفر) ولم يقصد بدار الإسلام حدوداً واضحة المعالم كما هو المعروف اليوم بين حدود الدول المرسومة والثابتة لكل جماعة دخلت في الإسلام أطلق عليها دار الإسلام زائداً أنَّ الأرض لم تكن كما هي الحال عليه الآن ذات قيمة كبيرة في الفهم الإسلامي بقدر قيمة التمدد الدعوائي من أجل نشر الدعوة الإسلامية ، وهذا المكوِّن يجعل من الأمَّة غير قابل للحصر بشرياً والتحديد جفرافياً ،وإنما هي في إتساع دائم بصرف النظر عن الإنتماء القومي والجغرافي..من هنا يمكن القول أنه يوجد فارق بين مفهوم الدولة في الفكر السياسي المعاصر وبين مفهوم الدولة في التراث الإسلامي ، هو إستبدال عنصر الحدود والأرض بعنصر الدعوة في الكرة الأرضية ولا قيمة للأرض والحدود ما دام عنصر الدعوة هي القيمة الكبرى في الوعي الإسلامي...ولهذا السبب لم يجر الإعتناء بالأرض والحدود في المباحث الإسلامية والفقهية سوى ما يتصل منها بإقتصاديات الأمة وخيراتها وتصدير المجموعات الملتحية والأصولية المتشدِّدة تحت مسميات إسلامية عديدة ورايات وإمارات وولاة بدعوى نشر الإسلام والهداية للعالم...وما نراه في التراث التاريخي الإسلامي بعد وفاة النبي محمد (ص) أنَّ الولاة لم يعودوا مجرد موظفي في ديوان الخليفة ، بل أصبحوا أمراء يتوارثون العرش في نظام أسروي ونظام الخلافة أصبح معرضاً للضرب من داخله بسبب نزاع الرؤوساء والزعماء والأمراء والولاة على إمتيازات السلطة..على سبيل المثال لا الحصر فكرسي الحكم الذي صعد عليه المأمون على جثة أخيه ما لبث أن تحوَّل إلى فخ مميت يشبه كرسي الإعدام لا يعتليه الخليفة لكي يحكم بل لكي يقتل ويُسبي ويُهجِّر ويُدمِّر علناً ويقتل بأسلحة صامتة مبرَّرة دينياً مثل السجن والسُمَّ والإنتحار والخنق..إنَّ دعوة الإسلام هي دعوة دينية ومذهب من مذاهب الإصلاح والمساواة والعدل لهذا النوع البشري وهدايته إلى ما يدينه من الله تعالى ويفتح له سبيل السعادة والحياة الكريمة أحمره وأسوده ،ويكونون في عبادته إخواناً..تلك هي الدعوة إلى المثل الأعلى لسلام هذا العالم ،إذ ليس من العقلانية أن يؤخذ العالم كله بدينٍ واحد وأنَّ تنظيم البشرية كلها وحدة دينية وأخذ العالم كله بحكومة واحدة وجمعه تحت وحدة سياسية مشتركة فذلك مما لا يُوشك أن يكون خارجاً عن الطبيعة البشرية ولا تتعلَّق به إرادة الله تعالى.