عاشوراء في تاريخنا الاسلامي محطة أليمة فاقت في فصولها المأساوية ومضمونها الاجرامي كل التوقعات حيث ظهرت فيها الجرأة البالغة على سفك الدماء التي حرم الله سفكها بنص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة مصدري العقيدة والشريعة للرسالة التي آمن بها المسلمون وقد وصلت تلك الجرأة على المحارم الى رموز دينية كبرى لها مكانتها وقدسيتها في نفوس المؤمنين جميعا الذين آمنوا بالله ورسوله فأصابت الامام الحسين ابن بنت رسول الله واهل بيته واصحابه والمسلمون يومئذ كان قد وصلهم سماعا ورواية قول رسول الله عليه الصلاة والسلام (الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة).
ولذلك كانت فاجعة كربلاء فجيعة عظمى على كل المسلمين اصابتهم في الصميم. وقد كان من اسباب اقامة هذه الذكرى سنويا الاظهار لمدى فظاعة هذه الجريمة والاستنكار لها والتنديد بها حتى لا تتكرر المأساة في حياة المسلمين وحقنا لدمائهم لأن دماء الامام الحسين اذا ذهبت بدون تنديد واستنكار متواصلين فلا تبقى من قيمة لحرمة سفك الدماء بين المسلمين وانتهاك سائر الحرمات والمحرمات الاخرى.
ولكن بعضهم حاولوا في تلك الحقبة المظلمة من التاريخ ان يستغلوا مقتل الامام الحسين في مشاريعهم السياسية وطموحاتهم السلطوية وكانوا يجمعون الناس تحت شعار (يا لثارات الحسين) لأن قضية الامام الحسين يتعاطف معها الناس لمظلوميته وموقعه الديني عند المسلمين.
وقد ادرك الامام الصادق مخاطر هذا الشعار على اشعال نار الفتن والحروب في المجتمع الاسلامي فواجه هذه الحالة التي كانت تخفي وراءها الكثير من حب السلطة والنفوذ وقال لهم ان الامام الحسين ليس ثارا لاشخاص ولا لقبيلة ولا لعشيرة انه ثار الله، فالشهيد عندما يقتل في سبيل الله فان الله تعالى هو الذي يتولى اخذ ثأره من الظالمين من خلال احكامه وقوانينه التي يسقط بها عروش الطغاة والجبابرة، فالامام الحسين ليس ثأراً لبني هاشم وليس ثأرا لطائفة ومذهب والذين ارتكبوا هذه الجريمة النكراء اصبحوا في محكمة الله فالامام الحسين قد مضى شهيدا والشهيد ثار الله والله خير الحاكمين. ولذلك كان الامام الصادق يخاطب الامام الحسين عليه السلام عند زيارة ضريحه بقوله له: (السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره).
وتستمر عاشوراء مدرسة نتعلم منها الدروس في الصبر والتضحية والفداء ورفض القهر والظلم ومثالا لكلمة الحق في وجه الفساد في البلاد والاضطهاد للعباد وشاهدا صارخا على تعسف الحكام الطغاة الذين يواجهون كلمة الاصلاح بالسيوف وقطع الرؤوس.
وتبقى الاسباب والظروف التي احاطت بالامام الحسين ودفعته للخروج مع الاطلاع على النتائج خاصة الامام الحسين فهي كما يقال في علم الفقه «قضية في واقعة» وتكليف خاص بالامام الحسين.
وهذا ما فهمه ائمة اهل البيت بعد استشهاد الامام الحسين فلم تؤسس حركته عندهم لقاعدة عامة في الخروج على الحاكم ولذلك لم تتكرر احداث كربلاء في حياة الأئمة مع ان اسباب الظلم والقهر لم تتغير في كثير من مراحل حياتهم ان لم تكن اشد ظلما وفسادا.
ولم تكن كربلاء بفجائعها فعلا من افعال الامام الحسين ولا صنيعة من صنائعه لنقتدي به في صنعها بانفسنا ومجتمعاتنا وانما كانت صنيعة سوء من الحاكم الجائر.
وعلينا نحن ان ننظر الى اهداف الامام الحسين ونضعها نصب اعيننا فنسعى لتحقيق الاصلاح في امتنا ومجتمعنا كما سعى الامام الحسين لتحقيق الاصلاح في امة جده بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذلك نقتدي بما روي عن الامام علي (ع): (انظروا اهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم واتبعوا اثرهم فانهم لم يخرجوكم من هدى ولن يعيدوكم في ردى. فان نهضوا فانهضوا وان لبدوا فالبدوا ولا تتقدموهم فتضلوا ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا).
وان الكثير من الممارسات التي تجري في مناسبة عاشوراء اصبحت على مرور الزمن من العادات والتقاليد التي لا دليل عليها في اصل الشرع ولم يقم بممارستها أئمة اهل البيت في حياتهم. ويروي اصحاب السيرة الحسينية في مجالسهم وصية الامام الحسين لاخته السيدة زينب وفيها النهي عن خدش الوجه وشق الجيب وغير ذلك من مظاهر الجزع عند المصاب التي ورد النهي عنها في الشريعة.
وقد ترسخت هذه العادات عبر قرون عديدة من منطلقات عاطفية والعلماء بشكل عام لم يتصدوا الى تهذيبها وتعليم الناس بما ينبغي ان يقوموا به في مثل هذه المناسبات مما اوحى اليهم بانها من الامور المستحسنة شرعا بل يظن البعض انها وصلت الى درجة الواجبات الشرعية مع ان الكثير من العلماء ومراجع الدين لا يمارسون تلك الاعمال ولا يحبذونها بل يذهب بعضهم الى تحريم بعضها كادماء الرؤوس والاجساد وقد ذكر العلامة المجتهد الشيخ محمد جواد مغنية: (ان العادات والتقاليد المتبعة عند العوام لا يصح ان تكون مصدرا للعقيدة لان الكثير منها لا يقره الدين الذي ينتمون اليه حتى ولو ايدها وساندها شيوخ يتسمون بسمة الدين. ومنها ما يفعله بعض عوام الشيعة في لبنان والعراق وايران من لبس الاكفان وضرب الرؤوس والجباه بالسيوف في اليوم العاشر من محرم. فان هذه العادات المشينة بدعة في الدين والمذهب وقد احدثها لانفسهم اهل الجهالة دون ان يأذن بها امام او عالم كبير كما هو الشأن في كل دين ومذهب حيث توجد به عادات لا تقرها العقيدة التي ينتسبون اليها ويسكت عنها من يسكت خوف الاهانة والضرر ولم يجرؤ على مجابهتها ومحاربتها احد في ايامنا الا قليل من العلماء وفي طليعتهم المرحوم السيد محسن الامين الذي الف رسالة خاصة في تحريم هذه العادة وبدعتها واسمى الرسالة «التنزيه لاعمال الشبيه»). انتهى كلام الشيخ مغنية رحمه الله.
ولذلك نرى ضرورة اعادة النظر في تنظيم هذه المجالس وتقديم قراءتها بالوسائل التي تنسجم مع اهداف هذه الذكرى وغاياتها لتصبح مدرسة حقيقية نتعلم منها مواجهة الظلم والفساد بادوات العصر وجعل الاصلاح الداخلي بكلمة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الهدف الذي تريده الشريعة في المجتمع وهو يقوم على التعاون والتآزر بين ابنائه.
فنحن عندما نتنافس على مصلحة الشعب والوطن ونسعى لترسيخ الاخوة بين المواطنين نكون بذلك من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
وعندما نحافظ على انتظام الامور ونحتكم الى المؤسسات الناظمة للامر نكون بذلك من السائرين على خطى الامام الحسين والمنتفعين بذكراه.
وعندما نطالب بتحسين اجور العاملين وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الحاكم والمحكوم في الضمان الصحي والتعليم نكون من المقتدين بنهج الامام الحسين، وعندما لا نسيء الى الآخرين في عاداتنا وتقاليدنا، نكون بذلك كله من العاملين بالمبادئ التي انطلق من اجلها الامام الحسين وبذلك نكون من العاملين بما قاله الامام محمد الباقر عن شيعته: (شيعتنا سلم لمن خالطوا وبركة على من جاوروا واذا رضوا لم يسرفوا واذا غضبوا لم يظلموا).
جعلنا الله واياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه والسلام على الامام الحسين يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.