فيما يلي الجزء الثاني من المطالعة الفقهية لسماحة العلامة المرجع السيد علي الأمين حول رؤية الهلال .
وهل يخفى القمر (2)

(رب اشرح لي صدري ويسِّر لي أمري واحلل  عقدة من لساني  يفقهوا  قولي) طه:25.
وبعد ، فإن  البحث  الفقهي  يعتمد  على  قواعد  وله مصطلحات  لا يعرفها إلاَّ  أهلُ  الإختصاص .
ولذلك  فقد  تصعب على  البعض  معرفةُ  المقصود  إن  لم  يكن  لديه   الإلمام    المطلوب بعناصر البحث، ولكي  يصبح  البحث  عن  مسألة  رؤية  الهلال  أكثر  فائدة  وأشمل  منفعة  وأوسع مساحةً من  حيثُ  القرّاء،  لا  بدَّ  من  ذكر  تعريفٍ  لبعض  المصطلحات  الواردة في  المقام،  وهذا شيء  يساعدنا  ويساعد  القارىء  على الخروج  من دائرة    الجدل وصناعة المُغالطات، ويفسح المجال  أمام  الجيل  الناشئ  من  أهل  العلم  في  الحوزات  والمدارس  الدينية  للإطلاع  على حقيقة  الحال،  ولإعادة  النظر  فيما  كتبوه  ونشروه  من  تقريرات  لأبحاث الأساتذة.
وقبل  الدخول  في  ذكر  تلك  الأمور،  لا بأس  في  التنبيه  على  أمر  يرتبط بعلاقة  الفقيه بالأحكام  الشرعية.
فالفقيه  ليسَ  مُشرعاً  للأحكام،  بل  هو  الباحثُ  عنها  بجدٍّ  واجتهاد،  يحاول  أن  يتعرّف  عليها  من  خلال  مصادرها  المُقرّرة  مع  مراعاة  القواعد  المعتبرة  في  فهم مقاصدها وتحديد مطالبها.
فليس  للفقيه  أن  يحذف  قيداً  موجوداً  لحكمٍ  مثلاً  ويستبدلهُ  بقيدٍ  غير  موجود انسجاما مع رأيه في علم من العلوم ;فإنّ ذلك من الاستحسان المرفوض والاجتهاد في مقابل النّص.
إذا  عرفت  هذا  نقول:  لقد  وردت  في  بحث  مسألة  الهلال  عدّةُ  عناوين  ومصطلحات لا بدَّ من  توضيح  المقصود منها  تمهيداً  لمعرفة  الحقّ.

(1)  احترازية  القيود،  وهي  قاعدة  يعتمدها  علماء  أصول  الفقه لتحديد  طبيعة  العناوين والقيود  الموجودة   في  النصِّ  الديني.
ومؤدى هذه  القاعدة  أنه  قد  يرتبط  الحكم  أو  الموضوع  بقيدٍ  من القيود  كما  لو  قال  المُشرِّع : ( إذا  زالت  الشمسُ  فصلِّ) أو( أكرم  الإنسان  الفقير).
فإن  الحكم  في  الصورة  الأولى، وهو  وجوب  الصلاة،  قد  ارتبط بزوال  الشَّمس  كما  هو  ظاهر  من  الشرط.  وارتبط  الموضوع،  وهو الإنسان  في  الصورة  الثانية،  بالفقر.
ومعنى  هذا  الارتباط  أن  شخص  الحُكم  في  الصورتين  ينتفي  عند انتفاء القيد  سواء   كان  قيداً  للحكم  أو  قيداً  للموضوع ،  وهذا  يعني  أن  كلَّ  قيدٍ  بحسب  هذه   القاعدة  يكون  دخيلاً  في  ثبوت الحكم  لموضوعه، ولذلك  كان  الحكم  ينتفي  بانتفائه  فإذا لم  يحصل  الزَّوال  لم  يحصل  وجوب  الصلاة   وإذا  لم  يحصل  الفقر  في  إنسان  معين  لم  يشمله ذلك  الوجوب  المجعول  على  الإنسان  الفقير ولا يكون الحكم فعلياً بالنسبة إليه.
وأنت  ترى  أنّ  القيد  في  كلتا  الصورتين  لم يكن  قيداً  تبرّعيّاً  بل  كان  مدلولاً  عليه  من  قبل  النصِّ  المذكور،  وقد  أطلق  عليه  إسم  القيد  الإحترازيّ  لأنَّ  المُشرِّع  بذكره  قد  احترز  عن  شمول  الحكم  الخاصّ  لحالة  فقدان  القيد;  إذ  لو لم  يكن  القيد  موجوداً لكان الحكم  ثابتاً  في  حالة  فقدان  القيد. وهنا  يقول  علماء  الأصول  بأن  الأصلَ  في  القيود   أن  تكون  إحترازيّة.

(2) الطريقية  والموضوعية،  والمقصود  منهما  ها هنا  أنَّ  بعض  العناوين  المأخوذة  في  موضوع  من  الموضوعات  قد  يكون  لها  صفةُ  الكشف  والحكاية  عن  شيء  آخر  نظير الرؤية  المأخوذة  في  وجوب  الصوم  المستفادة  من  قوله (صوموا  لرؤيته…)  فإنَّ  لها  حكاية  عن  المرئي  وهو  الهلال  فيقع  الكلام  في  أن  الرؤية  المأخوذة  في  موضوع  وجوب  الصوم،  بحسب  ظاهر  الدليل،  هل  أخذت  بما  هي  طريق  ومرآة  كاشفة  عن  ولادة  الهلال فلا تكون لها  خصوصية  أخرى  غير  الكشفِ  دخيلة  في  الموضوع،  وهذا  معناه  أخذ  الموضوع على  نحوِ  الطريقية  فيمكن  إثبات  ولادة  الهلال  بكاشف  آخر.  وإن  أخذت  الرؤية  بما  هي رؤية  لا  بعنوان  أنَّها  مرآة  كاشفة  عن  ولادة  الهلال  أو  للأمرين  معاً  فهذا  يعني  انحصار ثبوت  ولادة  الهلال  بها  ولا  تثبت  الولادة  شرعاً  بعنوان  آخر  وإن  كانت  له  صفة  الكشف  والحكاية، وهذا  معناه  أخذ  العنوان  على  نحو  الموضوعية.
وبما  أن  الطريقية  تستدعي  إلغاء  خصوصية  العنوان،  فهي  تحتاج  إلى  بيان  زائد   لا  يكفي  في  ثبوته  نفس  الدليل  المشتمل  على  العنوان  والظاهر  في  أخذه  وإعتباره  بعنوانه  الشخصي  لا  بعنوان  آخر لم  يُذكر  في  مفردات  النصِّ  محلّ  البحث  والإفادة.  ولذلك  يقول  المحققون  من  أهل  العلم  بأنَّ  الأصل  في  العناوين  المأخوذة  أن  تؤخذ  على  نحو  الموضوعية. 

(3)  فعلية  الرؤية، والمقصود بها أن يكون الهلال في معرض الرؤية البشرية، وليس المقصود أن يراه المكلف بنفسه ولذلك قالوا يثبت الهلال لدى المكلف برؤيته الشخصية أو بالرؤية المنقولة له بالتواتر أو بالشياع  المفيد للعلم، فتكون الرؤية الحاصلة بالتواتر أو بالشياع بالنسبة إلى المكلف الذي لم يشاهد الهلال بمعنى كون الهلال في معرض الرؤية البشرية بحيث لو حصل الاستهلال لحصلت الرؤية البشرية مع عدم المانع من غيم وشبهه.  وعلى هذا فمن أغلق عليه باب داره وكان الهلال في معرض الرؤية البشرية كان الصوم عليه واجباً ولذلك وجب عليه القضاء إذا قامت البينة الشرعية على الرؤية فيما بعد .

وبعد هذه المقدمات نقول:
إن النصوص الدينية التي وردت فيها صيغة ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) وما شابهها قد بلغت حد التواتر، ومن الواضح أن الصيغة المذكورة وأمثالها قد أخذت الرؤية فيها قيداً للحكم وهو وجوب الصوم. وقد عرفت من خلال ما تقدم أن الأصل في القيود الاحترازية وعرفت أيضاً أن الأصل المعتمد عند أهل التحقيق في عناوين الموضوعات أن تكون مأخوذة على نحو الموضوعية، والفرق في غاية الظهور والبيان بين التعبير عن وجوب الصوم بالقول ( إذا رأيت الهلال فصم ) وبين القول ( إذا ولد الهلال فصم ) أو ( إذا علمت بولادة الهلال فصم ). وقد كان للمشرع مندوحة في إختيار التعبير الخالي من قيد الرؤية، ولكنه لم يذكر سوى الصيغة المشتملة على كلمة الرؤية الواردة ضمن قضية شرطية. وقد عرفت في البحث السابق الفرق بين مشرعٍ زماني لزمان مخصوص أخذ قيداً في عالم الجعل والتشريع وبين قيدٍ أخذه مشرعٌ تنكشف لديه الأزمان ومطّلع على المستجدات والتطورات العلمية كما لا يخفى.
وكيف كان فإن كلمة الرؤية المذكورة في النصوص معناها لدى العرف واللغة من الواضحات، فهي تعني الرؤية البصرية المعهودة لدى البشر. ومما يؤكد إرادة هذا المعنى العرفي واللغوي  للرؤية  الواردة في النصوص والروايات  الأدلة الدالة على استحباب الدعاء عند رؤية الهلال والنظر إليه وكذلك الروايات الدالة على ثبوت الهلال بالبينة الشرعية;  فراجع واغتنم .

وعلى ما تقدم، فلا بد من الرؤية لثبوت الهلال الموجب لثبوت تكليف الصوم أو الإفطار، وأما الوجود الواقعي للهلال بمعزل عن هذه الرؤية لا يكون له أي أثر من الناحية الشرعية كما ذكر أستاذ الفقهاء والمجتهدين السيد الخوئي في مستند العروة الوثقى حيث قال ما نصه: ( ولكن هذا الوجود الواقعي لا أثر له في تكون الهلال وإن علمنا بتحققه علماً قطعياً حسب قواعد الفلك وضوابط علم النجوم، إذ العبرة حسب النصوص المتقدمة بالرؤية وشهادة الشاهدين بها شهادة حسية عن باصرةٍ عادية لا عن صناعة علمية ).  ثم قال: ( ومنه تعرف أنه لا عبرة بالرؤية بالعين المسلحة المستندة إلى المكبرات المستحدثة والنظارات القوية كالتلسكوب ونحوه من غير أن يكون قابلاً للرؤية بالعين المجردة والنظر العادي ) مستند العروة الوثقى- الجزء الثاني من كتاب الصوم -صفحة-123-124-.

ثم إن العالم بالفلك إذا أفاده علم الفلك يقيناً بولادة الهلال فهذا بالنسبة أليه يكون علماً ويقيناً، وأما بالنسبة إلينا فهو ناقل لعلمه ومخبرٌ عنه وهذا لا يفيدنا القطع واليقين. ولذلك ذكرنا في البحث السابق أن الحديث عن استفادة  اليقين من كلام الفلكي وعدم استفادته هو بحث صغروي قليل الجدوى بعد كون الفقيه في الغالب من غير أهل الإختصاص في علم الفلك، والمهم هو البحث في الكبرى، وهي في اعتبار هذا العلم وسيلة شرعية  لإثبات الهلال أو عدم اعتباره. وقد عرفت من خلال ما تقدم أن  الإعتبار هو للرؤية الحسية ولم يؤخذ في الدليل العلم غير الحسّيّ بولادة الهلال.

وأما دعوى أن إمكان الرؤية مأخوذٌ  قيداً في ثبوت الهلال ووجوب الصيام  فقد عرفت أن المأخوذ هو الرؤية بالمعنى المذكور في المقدمة، وأما إمكان الرؤية فهو قيد تَبَرُّعي، والنصوص منه خالية  كما لا يخفى. فيكون هذا القيد ساقطاً من الناحية العلميّة لعدم وروده في النصوص الشرعية، وهو ساقط من الناحية العلميّة أيضاً لأن القائل به يعلن عن بداية الشهر القمري قبل أسبوع أو اكثر  من الموعد الشرعي لالتماس الهلال، وهذا إسقاط عمليّ لهذا القيد المقترح ورجوع بالكليّة إلى حساب الفلكيّ وإلغاء للرؤية الشرعيّة وللشهادات المترتبة عليها.

وممّا يزيدك بصيرة في بطلان هذا القيد اعتبار من اخذه قيداً أن بداية الشهور مرتبطة بحركة الفلك التي تكشف عنها صناعة علم الفلك بوسائلها، ولا علاقة للرؤية البصريّة بذلك، خصوصاً في زمان تلوّث البيئة، وأنت خبير بفساد هذا القول وضعفه لأن الرؤية إذا لم يكن لها علاقة ببداية الشهور، وهو كذلك، فكيف يكون لإمكان الرؤية علاقة بذلك؟! هذا مع أن النصوص الشرعيّة لم تقل ( صوموا لبداية الشهر) وإنما قالت ( صوموا لرؤية الهلال) فلا تغفل ; فافهم واغتنم.
وقد ذكر الشيخ المغربي الرشيدي في حاشيته على الرملي ما نصّه : ( الشرع إنما أوجب علينا الصوم بالرؤية لا بوجود الشهر، ويلزم عليه أنه إذا دخل الشهر في أثناء النهار أنه يجب الإمساك من وقت دخوله ولا أظن الأصحاب يوافقون على ذلك).
وقال الإمام القرافي في كتاب الفروق : ( فإذا دلّ حساب تسيير الكواكب على خروج الهلال من الشعاع من جهة علم الهيئة لا يجب الصّوم) وقال أيضاً : ( وإن كان الحساب منضبطاً لكنه لم ينصبه صاحب الشرع سبباً فلم يجب به الصوم).

وعلى كل حال فإن الشريعة هي صاحبة الوضع و الرفع، فإذا وضعت الشريعة رؤية الهلال قيداً لوجوب الصوم، فلا يرتفع هذا القيد بالتلوّث البيئي ولا بالاحتباس الحراري للكرة الأرضية ولا بالاتساع في ثقوب طبقة الأوزون!!

ثم إن شهادة الفلكي بإمكان الرؤية مضافاً إلى أنها ليست شهادة عل موضوعٍ ذي أثرٍ شرعي كما عرفت، فإنها شهادة مستندة إلى العلم غير المحسوس ولا اعتبار بها، فإن المعروف بين المحصلين أن الشهادة المعتبرة وكذلك الأخبار هي التي تكون ناجمة عن حسٍ بشري لا عن صناعة علمية كما ذهب إلى ذلك السيد اليزدي في العروة الوثقى حيث قال ( لا يثبت، (الهلال)، بشهادة العدلين إذا لم يشهدا بالرؤية بل شهدا شهادة علمية ).
ووافقه على ذلك أساطين العلم وفقهاء العصر منهم السيد الخوئي في مستنده والسيد الحكيم في مستمسكه والإمام الخميني في تحرير الوسيلة والسيد شريعتمداري والسيد الميلاني والسيد الخنساري والسيد الكلبكاني والسيد الشاهرودي والسيد القمّي ذكروا ذلك في حاشية العروة الوثقى فراجِعْ.
وقد ذهبوا إلى رفض هذه الشهادة لأن موضوع الروايات الدالة على قبول الشهادة هو الرؤية الحسية لدى البشر. وقال العسقلاني في كتاب إرشاد الساري من كتاب الصوم : ( فلم نكلّف في تعريف مواقيت صومنا ولا عبادتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة إنما ربطت عبادتنا بأعلام واضحة وامور ظاهرة لائحة يستوي في معرفتها أهل الحساب وغيرهم). وقال الحافظ العسقلاني في فتح الباري من كتاب الصوم: ( فإن صومه مرتبط بالرؤية فلا حاجة إلى التكلّف).

 وأنت  خبيرٌ  بعد  الذي  تلوناه  عليك  في هذا البحث  وسابقه بحجم المُغالطة  التي  وقع فيها القائل باعتماد المراصد الفلكية  لتحديد بداية  شهر  رمضان  ونهايته وغيره  من الشهور،وأنَّ  هذه  المسألة لا  علاقة  لها بعلم الفلك لا  على  مستوى الصُغرى  ولا على  مستوى الكُبرى  بل هي مسألة فقهيةٌ  ترتبطُ بما يُستفاد  من النصوص الشرعية  أولاً وأخيراً نظير  كلِّ المسائل الفقهيَّة التي تعتمد، في المبدأ والمُنتهى، على ما يُستفادُ من الأدلَّة المُقررّة ; وليسَ لأيٍّ كان أن  يستحسِنَ  أمراً  أو يعتبِرَ  شيئاً لم تدل عليه النصوص الواردة بشأنه .
والله من وراء القصد وبه نستعين وهو ولي التوفيق، والحمد لله ربِّ العالمين. 

رابعاً

إزدواجية الفتوى والسلوك:
الإشكالية الفقهية في الحج الواحد وعيد الأضحى المتعدد
 

 

لقد أخذت مسألة البحث عن رؤية الهلال  في السّنوات الأخيرة، بالخروج عن دائرة النّقاش الفقهي النّظري المعتاد بين الفقهاء، وبدأت بالانعكاس السّلبي على بعض الجوانب المهمّة والعمليّة من حياة المسلمين تتجاوز آثار الخلاف فيها على بداية شهر رمضان وعيد الفطر المبارك، إلى الخلاف على مسألة أكثر أهميةً وارتباطاً بجماعاتهم، وهي مسألة الحجّ الذي يجتمع فيه المسلمون من كلّ الأقطار في مكان واحد لأداء عبادة الحجّ الّتي تتجلّى فيها مظاهر الوحدة والجماعة كالوقوف في عرفات يوم التاسع من شهر ذي الحجّة وما يتبعه من المناسك في وادي منى وعيد الأضحى في اليوم العاشر منه.
وقد وصل الاختلاف في التوقيت، إلى حدّ تشكيك بعض المسلمين بصحّة عبادة الحجّ، ويعود السّبب في ذلك إلى تعدّد الجهات والمرجعيّات الّتي تتصدّى لتحديد أوائل الشّهور القمريّة وإلى اعتماد بعضهم على آليّات جديدة في التّحديد مستبقاً دعوى الرؤية الشّرعيّة ورأي الهيئة المشرفة على شؤون الحجّ والّتي كان الأمر موكولاً إليها منذ القدم تنظيماً للأمر ومنعاً للاختلاف وتعزيزاً لروح الوحدة والائتلاف بين الحجيج خصوصاً وبين المسلمين عموماً، فلا يصحّ أن تأتي كلّ جماعة من الحجيج من بلدها ومعها موعد للحج يختلف عن موعد جماعة أخرى قادمة من بلد آخر وعلى هذا كانت سيرة السّلف الصالح في كلّ العهود الماضية.
ومن الآليات الجديدة التي يعتمدها – بعض الأساتذة المعاصرين خلافاً للمشهور بين الفقهاء إن لم يكن مجمعاً عليه – آراء علماء الفلك وحساباتهم الّتي ينتج عنها إلغاء الاعتماد على الرؤية البشريّة لأن الحسابات الفلكيّة تكون نتائجها سابقة على الرؤية البشريّة في أغلب الأحيان كما عرفت في البحث السابق ولذلك بدأ هذا البعض يعلن عن بداية الشهور القمريّة قبل أسبوع أو أكثر من الموعد الشّرعي لالتماس الهلال ممّا يؤدّي إلى وقوع الخلاف المسبق مع دعاوى الرؤية المتأخرة وإلى التشكيك في مواعيد عبادة الحج.
ومن عجائب الأمور، أنّ بعضهم يمارس عملاً غير معقول من هذه الناحية، حيث يفتي لأتباعه بالوقوف مع المسلمين في عرفات في يومٍ واحد، مع إظهار اختلافه المسبق حول موعد الوقوف وعيد الأضحى، اعتماداً على الحسابات الفلكيّة السّابقة، الّتي يعتبرها مقدَّمةً على الرؤية الشرعية عند وقوع المعارضة بينهما.
وتأكيدا على إشاعة اجواء الشكّ والاختلاف بين الحجّاج وعموم المسلمين، يقوم هذا البعض بأداء صلاة عيد الأضحى في بلده بعد انتهاء عيد الحجاج بيوم أو يومين، وقد يكون ذلك بعد ثلاثة أيام  أحياناً،حسب اختلاف دعاوى الرؤية مع حسابات الفلك.
ووجه العجب والغرابة في هذا العمل، يبدو في الجمع بين النقائض والأضداد. فكيف نحافظ على مظهر الوحدة والاتفاق بين المسلمين، على ركن واجب من أركان الاسلام، و هو الحج، وفي نفس الوقت، نظهر الاختلاف بين المسلمين على أمر غير واجب يجوز تركه، كصلاة العيد، التي يفتي نفس هؤلاء باستحبابها وعدم وجوبها!!
ثمّ ،ماهي الفائدة من التّصدّي لتعيين موعد تلك المناسبة الدينية، مع إفتائه بالوقوف مع المسلمين في يوم واحدٍ، ومع وجود الهيئة الناظمة لشؤون الحج، والّتي يكون عمل الحجّاج حسب مواعيدها؟!
مع أنّ هذا السّباق على تحديد مواعيد الحج ليس واجباً في حدّ نفسه، فإن الله يأمر باستباق الخيرات؟! وهل يحصل من هذا التسابق على إعلان أوّل الشّهر فلكيّاً، سوى توليد الشكّ في نفوس الكثيرين من الناس حول مواقيت عبادتهم وصحّتها، وهم الّذين لم يجتمع لديهم المال اللازم لها إلاّ بشقّ الأنفس، وقطع المسافات الطّويلة؟! وما الّذي يحصل في بلاد المسلمين الأخرى، عندما تقام صلاة العيد بعد يومين من عيد الأضحى للحجّاج، غير المزيد من وحشة المسلمين بعضهم من البعض الآخر، وإيجاد المناخ الملائم للانقسامات و التّشرذم؟!
فأين هو اليسر في كلّ ذلك و الله تعالى يقول: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).
وأين هو الاتّحاد في ذلك خصوصاً من دعاة الوحدة بين المسلمين؟! والله تعالى يقول: ( إنّ هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون).
وفي مثل هذا الاختلاف المذموم  يقول الامام علي عليه السلام:
( ترد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثمّ ترد تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الامام الّذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعاً – وإلههم واحد! ونبيّهم واحد! وكتابهم واحد! – أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه! أم نهاهم عنه فعصوه!.).

وعلى كلّ حال، فإنّ الواجب متابعة المسلمين في أداء مناسك الحج، ذات الوقت المحدّد لعموم المسلمين، كما هو الحال في يومي عرفة وعيد الأضحى، وفقا لهيئة القضاة المكلّفة بالتّعيين ويحكم بصحّة الحجّ شرعاً، لعدم العلم بمخالفة الهيئة المذكورة للتّوقيت الواقعي وعلى هذا جرت سيرة الأئمّة عليهم السّلام. وقد ذكر السيّد الخوئي قدّس سرّه أنّ الأئمّة كانوا يحجّون في أغلب السّنوات وكان أصحابهم والتّابعون لهم يحجّون أيضا مع سائر المسلمين وكان التوقيت والتّحديد ليومي عرفة وعيدي الأضحى والفطر بيد غيرهم في ذلك الزّمان واستمرّ الأمرعلى ذلك طيلة حياة الأئمة عليهم السّلام، ولم ينقل عنهم التشكيك في صحّة الحجّ ،ولم يسألهم أحد من أصحابهم عن إعادة الحجّ أو الوقوف في يومٍ آخر، مع أنّ الاختلاف بالتوقيت كان يحصل في أكثر هذه السّنوات، ولم يطلبوا من أصحابهم الاحتياط في ذلك، ولا  هم أنفسهم قاموا بهذا الأمر، ولم يصلّوا صلاة عيد الأضحى في الحجّ أو المدينة المنوّرة في يوم آخر، ولم يتصدّوا للإعلان الذي يزرع الخلاف بين المسلمين. وهذه السّيرة القطعيّة من الأئمّة عليهم السّلام، تكشف كشفاً قطعيّاً عن صحّة الحجّ ولزوم متابعة سائر المسلمين في ذلك.
وممّا يشهد على وقوع الاختلاف في التوقيت في ذلك الزّمان، وعلى لزوم تجاوزه، وعدم الاصغاء إلى تلك التشكيكات، قول الإمام الباقر عليه السّلام عندما سأله أبو الجارود بقوله:
( إنّا شككنا في عام من تلك الأعوام في الأضحى فلمّا دخلت على أبي جعفر عليه السلام وكان بعض أصحابنا يضحّي فقال: الفطر يوم يفطر النّاس والأضحى يوم يضحّي النّاس و الصّوم يوم يصوم النّاس).

وعن الإمام موسى بن جعفر (ع) :
عن الرّجل يرى الهلال في (آخر) شهر رمضان وحده لا يبصره غيره أله أن يصوم؟ قال : إذا لم يشكّ فليفطر وإلاّ فليصم مع النّاس).

وفي رواية أخرى عن أوّل الشّهر:
(إذا لم يشكّ فيه فليصم وحده وإلاّ يصوم مع النّاس إذا صاموا).
وعن الامام الصّادق عليه السّلام قال عيسى بن أبي منصور:
( كنت عند أبي عبد الله (ع) في اليوم الذي يشكّ فيه، فقال: يا غلام إذهب فانظر هل صام الأمير أم لا؟ فذهب ثمّ عاد، فقال: لا، فدعا بالغداء فتغدّينا معه).

والرّوايات في ذلك كثيرة. والذي يظهر بوضوح من هذه الروايات وغيرها أن الائمة عليهم السلام لم يكونوا يقومون بالتّصدّي لدور تعيين أوائل الشّهور القمريّة وتحديد المناسبات الدّينيّة اكتفاءاً بالجهات المعنيّة بهذا الأمر في زمانهم حتّى لا يقع الإختلاف بين المسلمين على مناسبات يفترض أن تكون جامعة لهم على رأي واحدٍ ينعكس في سلوك موحّدٍ يبعد عنهم مظاهر الاختلاف في الدّين لأنّ ما يفوت على المسلمين من مصلحة بسبب الاختلاف هو أكثر ممّا يفوتهم من مصلحة التوقيت الواقعي على تقدير المخالفة معه وتكون مصلحة التوافق بين المسلمين أشبه بالمصلحة السّلوكيّة التي يتدارك بها مخالفة الواقع على تقدير حصولها كما يقول بعض المحققين في علم أصول الفقه.
هذا إذا كانت المصلحة الفائتة واجبة التّدارك فتكون المصلحة السّلوكيّة هي العوض والبديل عنها وأمّا إذا كانت المصلحة الفائتة غير واجبة التّدارك كما هو الحال في غير الواجبات كصلاة عيد الأضحى، فإنّ مصلحة الإتفاق بين المسلمين تكون هي الأولى بالتّقديم بطريقٍ أولى، دون الحاجة إلى افتراض مصلحة سلوكية لازمة لتعويض الفائت الّذي لا يجب تداركه وتفصيل الكلام في ذلك متروك إلى محلّه من علم الأصول.
وإذا وجب الوقوف في عرفات مع سائر المسلمين في يوم واحد، فلا يجوز للحاج أن يقف في يوم آخر مخالفا لهم. وقد ذكر السيّد الخوئي أنه يحرم شرعاً الوقوف في يوم آخر غير اليوم الذي وقف فيه المسلمون في عرفات. ومن المعروف أنّ الحرام، لا يقع عبادة بحالٍ من الأحوال، فإنّ الله لا يطاع من حيث يُعصى ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وأخيراً، فإنّنا نجدّد دعوتنا و اقتراحنا على ذوي الشّأن، تشكيل غرفة عمليّات مشتركة من قبل دول المؤتمر الاسلامي، ويكون مركزها في مكّة المكرّمة، ويجتمع فيها ممّثلون من ذوي الخبرة، وتكون هذه الغرفة الممثّلة للجميع، هي المرجع الوحيد في تحديد المناسبات الدينية، و بذلك يمكن أن نضع حدّاً لكلّ هذه الاختلافات حول مسألة الهلال، الّتي لم يعد من المقبول في هذا العصر، أن يحصل فيها مثل هذا الاختلاف مع وجود وسائل التّواصل الّتي تجعل من العالم كالقرية الواحدة من حيث إمكان المعرفة والاطّلاع وجمع الشّهادات من مختلف البلدان وتوثيقها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.