وحدة الدين

إننا من خلال التدقيق في كلمة الدين ومن خلال الرجوع إلى مواطن إستعمالها في النصوص الدينية يظهر لنا أن كلمة الدين ذات مدلول واحد غير قابل للجمع والتعدد الذي يستدعي التغاير وذلك لأن الدين في مقابل الإلحاد الذي ينفي وجود الخالق للكون والحياة وينفي بالتالي بعث الرسل والأنبياء والإلحاد بهذا المعنى هو نقيض للدين الذي يعني إيماناً وإعترافاً بوجود الخالق لهذا الكون والحياة ، لأن العدم لا يصلح منشأ لهذا الوجود الزاخر بكل معاني الحياة فإن فاقد الشيء لا يعطيه ، وبما ان النفي الإلحادي أمر واحد فيكون الإثبات الذي هو الدين أمراً واحداً لأن نقيض الواحد واحد كما هو مقرر في علمي الفلسفة والمنطق .

وبعبارة أخرى ان هناك نظرتين إلى هذا العالم نظرة فيها إعتقاد وتسليم بوجود المبدأ الخالق له وهو الله تعالى وهذه رؤية الدين ورأيه ، والنظرة الأخرى فيها إنكار لهذا الإعتقاد وهذه نظرة الإلحاد ورأيه ، ومن الواضح أنه لا يوجد رأيان للدين في هذه المسألة ولا توجد له نظرتان تختلفان في مبدأ الكون والحياة ،والدين يعني الإعتقاد بهذه المسائل ولذلك نرى أن لا تعدد في الدين بهذا اللحاظ وإنما هو أمر واحد وهو الإذعان والتسليم بأن الكون والحياة لم يخلقهما العدم وإنما خلقهما الله تعالى وهو الذي أخرجهما من ظلمة العدم إلى نور الوجود، والدين بهذا المعنى هو ما ارشدت إليه الفطرة السليمة ودل عليه العقل المستقيم وتعزز وتأكد بوحي السماء وقد انبثق عن هذا الدين العقيدة شرائع ورسالات سماوية واكبت مرحلة الوعي البشري ،وهذه الشرائع وان تعددت إلا أنها واحدة في المصدر وواحدة في الهدف أي انها واحدة في الله وفي الإنسان . وعلى هذا فجمع كلمة الدين على أديان هو بلحاظ تعدد الرسالات وليس بلحاظ وحدة المعتقد الذي تقدم ذكره في مقابل الإلحاد .

وهذا الرأي في وحدة الدين يتعزز من خلال مراجعة جملة من النصوص الدينية التي تركز على وحدة دين الله أي كلمة ( الدين ) لم ترد في القرآن الكريم إلا بصيغة المفرد ولم أجدها في الكتاب المقدس بصيغة الجمع في حدود ما اطلعت عليه .

وقد ورد في سورة آل عمران أن دين الله هو المعنى الذي أشرنا إليه من الإذعان والتسليم بأن لهذا الكون مبدئاً وخالقاً وهو الله تعالى، والآية هي قوله تعالى ( إن الدين عند الله الإسلام ) وقوله ( أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون ) فإن الإسلام في الآيتين هو بمعنى التسليم والإذعان والإيمان بالله الخالق للسماوات والأرض ولكل مظاهر الحياة وهذا المعنى هو المقصود أيضاً من قوله تعالى (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) والمعنى نفسه هو ما أشارت إليه الآية الكريمة ( قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد من رسله ونحن له مسلمون ) فإن قوله تعالى ( ونحن له مسلمون ) يعني التسليم لله تعلى بأنه الخالق وبأنه منزل الوحي وباعث الأنبياء.

وقد تحصّل أن دين الله واحد لا تعدد فيه وأنه الإسلام لله بمعنى التسليم والإعتراف بالله تعالى والإعتقاد أنه هو خالق العالم وعلة هذا الوجود، وهذا لا يعني إنكاراً للمسيحية ولا لليهودية لأن الدين بهذا المعنى هو دين الرسالات السماوية جميعاً التي إنبثقت عن إعتقاد واحد في مسألة الكون والحياة والمبدأ والمعاد .

-اختلاف الرسالات-

وهذه الشرائع والرسالات ليس إختلافها بنحو التباين والتباعد وإنما هو بنحو التكامل والتعاضد يكمل بعضها البعض الآخر كما في قوله تعالى ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) وفي الكتاب المقدس ما يشير إلى تكامل الرسالات وهو قول السيد المسيح عليه السلام ( لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس ، بل جئت لأكمله ).

ومن خلال التعرف على أهداف الرسالات السماوية نتمكن أن نتعرف على الدور الذي يقوم به الدين في بناء الأوطان والإنسان والهدف واحد كما يشير إليه قول الله تعالى ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) .وقد دلت هذه الآية على أن الهدف هو إقامة العدل بين الناس وإعادة الوحدة التي تصدعت بالإختلاف فيما بينهم وإقامة العدل ، وتوحيد الناس من الكمال المطلوب في رسالة السيد المسيح عليه السلام ( كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل).

ومن خلال هذين النصين الدينيين نفهم وحدة الرسالات السماوية في الهدف بعد أن كانت واحدة في المصدر وفي الرؤية الفلسفية لهذا الكون .

وبعد معرفة الهدف لا يمكن أن يكون الدين إلا عاملا من عوامل إستقرار المجتمع لأنه يدعو إلى الوحدة والعدالة وهما الأساس في إستقرار المجتمع البشري وتطوره وقد كانت حركة الأنبياء عبر التاريخ لتغيير الواقع الفاسد وإصلاحه على أسس العدالة الإلهية التي حمل مشعلها الأنبياء والمرسلون وواصل مسيرتها الصالحون والمصلحون من بني البشر المؤمنين برسالات ربهم .

-دور الدين في الحفاظ على الوطن

وبعد أن عرفنا تكامل الرسالات في أهدافها يمكننا الإطلالة على الواقع في وطننا لبنان وعلى الدور الذي يمكن أن يقوم به الدين في هذا الإطار، فنقول أن الدين يمكن أن نعتبره من عوامل بقاء هذا الوطن ،لأن الدين من خلال الشرائع المنبثقة عنه يدعو إلى المحافظة على الوطن وإلى تعزيز الإرتباط به وبإنسانه وقد ورد في الحديث الديني ( إن حب الوطن من الإيمان ، إذا أردت ان تعرف وفاء الرجل فانظر حنينه إلى وطنه ) وهذا يعني أنه لا يجوز أن تكون روابط الدين والعقيدة على حساب روابط الإنسان بوطنه وشعبه ،لأن الدين كما عرفنا من أهدافه أنه يدعو لتعزيز إرتباط الإنسان بوطنه وشعبه ،وهي ارتباطات تسبق رابطة الدين الذي جاء ليؤكدها ويعززها بالتواصل والتعاضد ومن هنا فإننا نؤكد على أن المتهاون في وطنه هو متهاون في دينه لأن الوطن من المقدسات التي لا يجوز الإستهانة بها ولا التفريط بها تحت أي شعار .

وقد أثبتت الأحداث التي جرت على الأرض اللبنانية طيلة خمسة عشر عاماً ونيف أن لبنان لا يمكن أن يكتب له البقاء والإستمرار كوطن لجميع أبنائه إلا من خلال صيغة العيش المشترك بين الطوائف الإسلامية والمسيحية ،وقد رأينا إهتزاز الكيان اللبناني كله عندما إهتزت صيغة العيش المشترك في بعض المناطق ورأينا كيف بدأت العافية تعود إلى لبنان وطناً واحداً موحداً ودولة واحدة عندما أزيلت الفواصل المصطنعة بين اللبنانيين وسرعان ما عاد اللبنانيون عائلة واحدة يتواصل بعضهم مع البعض الآخر كما أرادالله تعالى ذلك بقوله ( إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) فهو خلقنا للتعارف والتواصل والتفاعل في العيش معاً، وصيغة العيش هذه هي تعبير عملي عن أهداف الدين الواحدة في صياغة الإنسان وحقه في العيش بسلام مع أخيه الإنسان على قاعدة العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات وهذه العدالة الإجتماعية التي لا بد منها في بناء الوطن وصهر المواطنين في عائلة وطنية واحدة، هي المنسجمة مع العدالة الإجتماعية الإلهية التي بشر بها الأنبياء وكما جاء في الإنجيل المقدس ( ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ) فالإنسان يحتاج إلى العدالة،ولذلك نرى أن في الصيغة اللبنانية للعيش المشترك التي تعني قبول بعضنا البعض الآخر ضمن عائلة واحدة إسمها الشعب اللبناني ، وضمن وطن واحد إسمه لبنان المؤمن برسالات السماء ، نرى فيها الرسالة الدينية التي يجب التمسك بها وتعميمها إلى كل بلاد العالم لأنها الصيغة الوحيدة التي تبعث الأمن والإستقرار للجماعة البشرية عبر التوافق واللقاء بين أتباع الشرائع السماوية وبذلك نستجيب لنداء الله تعالى ( ان أقيموا الدين ولا تتفرقوا ) ( وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) وقد حدثنا القرآن الكريم عن المحبة والمودة بين المسيحيين والمسلمين بقوله تعال ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ) .

-المشكلة ليست في الدين-

إذن لم تكن المشكلة في الدين وأهدافه،وإنما تكمن المشكلة في الصراع السياسي ، حيث يحاول البعض إستخدام الدين وسيلة لتعزيز موقعه السياسي ، من هنا تأتي المشكلة فيمن شوهوا الدين ،فقد كان الدين عامل ألفة بين اللبنانيين كما رأينا ذلك في عهد الإمام الصدر أعاده الله الذي اعتبر هذا التركيب الطائفي ثروة يجب صيانتها.

-الكتاب الديني الواحد وتنظيم سلك رجال الدين

اننا نطالب بالكتاب الديني الموحد وتنظيم التعليم الديني في المدارس فكما كتاب التاريخ ينبغي أن يكون واحداً كذلك كتاب التعليم الديني وكذلك كان آباؤنا مؤمنين موحدين ولم يدرسوا الدين في المدارس .

ونحتاج إلى المعهد الديني الواحد الذي يجلس فيه الأب مع الشيخ على مقعد واحد لأننا من خلال المقعد الواحد نضمن بقاء الوطن الواحد والشعب الواحد ، إننا لا نريد أن نكتفي باللقاءات البروتوكولية على مستوى القيادات الروحية لأنها لم تؤد إلى فهم متبادل ولم ترسخ العيش المشترك لأنها لقاءات سياسية لم تلامس جوهر القضية التي نريدها وهي الإنصهار الوطني عبر فهم ديني متبادل يعزز صيغة العيش المشترك . ان عجز المؤسسات الدينية كان واضحاً أثناء الحروب التي قامت في بعض الأحيان بإسم الدين ، وكذلك تبرز الحاجة الملحة لتنظيم السلك الديني بالشكل الذي يعزز الولاء للوطن ويحافظ على الوحدة بين المواطنين .

-وزارة للشؤون الدينية

انه إذا لم تتمكن المؤسسة الدينية من القيام بهذه الأدوار فإننا نقترح إنشاء وزارة للشؤون الدينية لترعى هذه الأمور لأنه لا يجوز أن تظل مراكز التربية والتوجيه في المدارس والكنائس والمساجد بمعزل عن منهاج للتعليم الديني يوحد بين أبناء الشعب الواحد و يرسخ إنتماءهم للوطن وارتباطهم بمؤسساته ويمنع من تصنيفهم على أساس المذاهب والأديان. وقد بلغني أن الطلاب في ساعات التعليم الديني يتم فرزهم كلٌ بحسب دينه ! فنقسّمهم صغاراً، ونطلب الوحدة منهم كباراً !!

إن هذا الشيء لعجبٌ عجاب !. فالمطلوب كتاب واحد للتعليم الديني يجمع بين المشتركات الدينية في الفضائل والأخلاق والعبر والعظات .

وأما الخصائص لكل دين أو مذهب يأخذها الطالب من المسجد أو الكنيسة ومن محيطه الذي يعيش فيه فالمدارس هي مراكز للتربية الوطنية والتعليم وليست حوزات دينية ومعاهد لاهوتية.

العلامة المرجع 
السيد علي الامين