الرّسالة أوّلاً و بالذّات والسّلطة ثانياً و بالعرض

وبالعودة إلى القرآن الكريم الهادي إلى الحق والمنقذ من الضّلال يمكن العثور على مجموعة من الآيات المباركة التي تدلّنا بشكل واضح على المشروع الإصلاحي الكبير الذي سعى الأنبياء لتحقيقه في حياة المجتمع البشري والذي أوكل للأئمة والأوصياء بعدهم الاستمرار في مواصلة الدور القيادي حفاظاً عليه وسعياً لتطبيقه.

وهذه المجموعة من الآيات منها قوله تعالى في سورة آل عمران -164-:(لقد مَّن الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).

ومنها قوله تعالى:(كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون )البقرة-151-

ومنها قوله تعالى(فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)البقرة-213-

ومنها قوله تعالى(وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)النساء-58-

ومنها قوله تعالى(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)الحديد-25-

ومنها قوله تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليُبَيِّنَ لهم…)

ومنها قوله تعالى(ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور)إبراهيم5-

ومن خلال الجمع بين هذه الآيات المباركات نستفيد أن حركة الأنبياء في حياة الأمم والشعوب شكّلت دعوة هادفة إلى تحقيق أمرين أساسيين في حياة الناس:الهداية والعدالة والأمر الأول يشتمل على التربية والتعليم كما جاء في قوله تعالى الذي قرأناه(ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ..) ومن خلال التربية والتعليم يحصل تطور المجتمع وتقدمه روحياً وثقافيّاً والأمر الثاني وهو العدالة يضمن الأمن والإستقرار و يشكّل قاعدة للإزدهار المادّي ويزيل الإختلاف غير المشروع بين أفراد المجتمع وطبقاته.

 

ومن الواضح من خلال هذه الآيات وغيرها مضافاً إلى سيرة الأنبياء أنّ الدّاعي الأساسي لبعثة الرّسل والأنبياء هو داعي الهداية والإيمان والإصلاح بين النّاس و إرشادهم إلى سواء السّبيل وإقامة الحجّة عليهم ولم يكن مشروع السّلطة السّياسيّة أساسيّاً في الدّعوة إلى الرّسالة ولذلك نرى أنّ عدداً قليلاً من الأنبياء و الرّسل وصل إلى موقع السّلطة السّياسيّة عبر التّاريخ الطّويل وكان يحصل ذلك عندما تتوفّر جملة من العوامل منها إرادة النّاس واختيارهم على قاعدة قوله تعالى ( أفنلزمكموها وأنتم لها كارهون ) .

 

هذا هو الدّور الأوّلي الّذي ورثه الأئمّة عليهم السلام عموماً و حملوا مشروع الأنبياء في التّبليغ والتبشير والإنذار والتّعليم و الهداية والإرشاد. وقد توفّرت لبعضهم الأسباب لاستلام السّلطة السّياسيّة كما حصل للإمام علي والإمام الحسن عليهما السّلام وتولّى الإمام الحسين (ع) قيادة مشروع سياسي في ظروف معلومة بعد دعوة النّاس له و تمسّكهم بإمامته وقيادته لإنقاذهم من التعسّف و الإضّطهاد فخرج لتحقيق الإصلاح في أمّة جدّه.

 

والذي نراه أنّه بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) وأصحابه وأهل بيته قد تعطل المشروع السياسي الثانوي بفعل المتغيّرات التي حصلت في جسم الأمّة الإسلاميَّة بعد ذلك إلى يومنا هذا واستمرّ عمل الأئمّة (ع) بعده على الدّور الأوّلي في حفظ الشّريعة وتبليغ أحكامها وتعليمها فيما يسمّى بالمشروع الثّقافي العام الذي يرفع مستوى الوعي في الأمّة و يجعلها أكثر قدرة على تحسين مواقع الإرادة و الإختيار في شؤونها السّياسيّة والإجتماعيّة انطلاقاً من ثقافتها الدّينيّة الّتي أخذوها من مدرسة الأئمّة و العلماء الوارثين. وقد يقع نتيجة لذلك اختيار الأمّة والجماعة على النموذج الأفضل للقيام بمهمّة القيادة السّياسيّة وهو الإمام إضافة لقيامه بالمهمّة الأساسيّة وهي مهمّة الهداية والإرشاد، وقد يقع اختيارهم على نموذجٍ دونه في الفضل للقيام بمهمّة القيادة السيّاسيّة ونظم الأمر وهذا ينسجم في الأصل مع حريّة الإنسان واختياره ومقدار وعيه و اقتداره.

 

وليست النبوّة وكذلك الإمامة من المناصب الإلهيّة الّتي تجبر الإنسان على موافقتها ومتابعتها وتجعله مسلوب الإرادة و الرّأي أمامها فالإمامة جزء من التشريعات الدّينيّة الّتي لا تفرض على النّاس بالإكراه كما في قوله تعالى : ( لا إكراه في الدّين ). وممّا يشهد أنّ الإمامة لم يكن دورها الأساسيّ في القيادة السّياسيّة وإنّما هو دور في المرجعيّة الدّينيّة المنصوبة لهداية الخلق أنّ الإمامة هي وارثة للنبوّة وأنّ الهدف الأساسي والأوّلي من بعثة الرّسل والأنبياء هو مشروع هداية الخلق إلى الحقّ ولم يكن مشروع السّلطة السّياسيّة أساسيّاً في دعوة الهداية والإرشاد وكذلك الحال بالنّسبة إلى الأئمّة والإمامة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنّبوّة فلا تزيد عليها في مشروعها الأساسي وفي كونها دعوة ورسالة أوّلاً و بالذّات قبل أن تكون حكومة وسلطة سياسيّة ثانياً وبالعرض. وهذا ما يفسّر لنا حركة الأنبياء الّذين لم تكن السّلطة من أهدافهم ولم يسعوا إليها وكانوا يحملون مشاعل الهداية والإيمان وفيهم من كان يحمل لقب الإمام ويتبوّأ منصب الإمامة بقرار إلهيّ كما جاء في قوله تعالى بالنّسبة إلى النّبي إبراهيم عليه السّلام ( قال إنّي جاعلك للنّاس إماماً ).

فقد جُعل النّبي إبراهيم الخليل إماماً بمقتضى هذا النّص القرآني ولم يكن صاحب سلطة سياسيّة. وكان علي بن أبي طالب يحمل لقب الإمام ولم يقم بأي دور سياسيّ في حياة الخلفاء الرّاشدين وكان الحسن والحسين وهما صغيران يحملان لقب الإمامة في حياة جدّهما رسول الله (ص) حيث ورد عنه الحديث ( ولداي هذان الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا). وممّا يشهد أيضاً أنّ الإمامة أمرها في الأصل قائم على الهداية والإرشاد قوله تعالى ( وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا ) الأنبياء 73، وقوله تعالى : (واجعلنا للمتّقين إماماً) الفرقان 74، وقوله تعالى: (وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا ) السّجدة 24.

والمستفاد من هذه الآيات وغيرها أن الإمامة ليست موقعاً سياسيّاً في الأصل وإنّما هي موقع الهداية الرّبّانيّة الدّاعية إلى الله بالحكمة و الموعظة الحسنة اقتداءاً بالرّسل والأنبياء و تشهد على ذلك سيرة الأنبياء الّتي أشرنا إليها فيما سبق وكذلك سيرة الأوصياء الّذين ابتعدوا عن مشاريع السّلطة السّياسيّة وأخذوا بدور التّعليم و التّربية ولذلك لا نرى تنافياً وتناقضاً بين انعدام الدّور السّياسي للنّبي والإمام وبين منصبي النبوّة والإمامة.


وقد حصل الإنقسام الحادّ في جسم الأمّة بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) فانقسمت إلى مذاهب وطوائف ساعدت عليه السّلطات الحاكمة الّتي تمكّنت أن تجعل من الأئمّة بعد الإمام الحسين أئمّة لمذهب ممّا يضعف الموقع القيادي العام في الأمّة الّذي يشكّل شرطاً موضوعيّاً لقيادة مشروع سياسيّ يحكي تطلعات الأمة بشكل عام.


وقد كانت هذه الطّريقة التّقسيميّة الّتي اعتمدت من قبل الحكّام من أشدّ الطّرق خطورة حيث أدّت إلى عزل قطاعات كبيرة من الأمّة عن الأئمّة حيث أصبح لكلّ مذهبٍ مرجعيّته الدّينيّة الخاصّة به. ومن خلال تلك الانقسامات الكبيرة التي حصلت بفعل الأحداث و الصّراعات تمّ إبعاد الأمّة في معظم مكوّناتها عن مرجعيّتها في شؤون الدّين المتمثّلة بالأئمّة ومدرستهم وهي الّتي كانت تمهّد الطّريق للرّجوع إليهم في عالم الدّنيا والسّياسة.