إن نقد أي شخصية ذات منصب ديني أو دنيوي يقرن بصعوبات كثيرة قد تخرج الناقد لها من دينه ويدخل تحت الإرتداد من قبل أصحاب العقل الأصولي لأنهم يعيشون ظاهرة تقديس القديم المتفرِّع إلى ثلاث اتجاهات : تقديس الأشخاص ، تقديس الأفكار ؛ تقديس النهج.... هذه المظاهر لإندفاع عام ذي إتجاه شعبي وثقافة منتشرة بين أفراد المجتمع ، والحوزات التي ينتمي إليها العقل الأصولي ليست بمعزل عن التأثر بهذه الظاهرة الجارفة والنابعة من أصحاب المذاهب والملل والعقائد..سواء كان على شكل عادات وتقاليد أو أفكار ورؤى ، أو شعائر ومظاهر تتميَّز بها عن غيرها..ولهذا نرى في القرن الخامس للهجري أنَّ أراء الشيخ الطوسي لا تقبل المناقشة باعتباره هو شيخ الطائفة ويملك هالة من القداسة بحيث لا يجرؤ أحد أن ينتقد رأيه أو فتواه...جاء إبن إدريس الحلِّي في القرن السادس للهجري وبدأت المناقشة والآراء التي تهدم لآراء الشيخ الطوسي فما كان من الحوزة إلاَّ الإتهام والحملات الشعوائية ووصفته بالشاب المتهوِّر بحيث تخرجه عن عقيدته وقالوا "إنَّ الدين قد إنهدم مرَّتين مرة في السقيفة ومرة في ولادة الحلِّي " وهكذا بدأت الحملة على الشيخ المعروف (بإبن الجُنيد) الإسكافي وإبن الغضائري وغيرهما من العلماء الذين كانت آراؤهم تعتبر بنظر الحوزة هي آراء شاذَّة ويتعرَّض صاحبها لأبشع أنواع التشنيع والتعريض..وأيضاً ما تعرَّض له العلامة أبو إسحاق الشاطبي الذي أحدث نوعاً كبيراً وأراد أن يخرج من حالة الجمود لدى الفكر الأصولي إلى حالة من التجديد وغيره ، والإحصاءات كثيرة إلى زماننا أيضاً نرى نفس الحالة التي واجهت العلماء والمفكرين كالشيخ علي عبد الرازق (1924) الذي اتهم وتعرَّض للهتك وعزل من منصبه في الأزهر ، والشيخ محمد جواد مغنية (1954) تعرَّض من قِبَل الحوزة الأصولية إلى حملة شعوائية وهو ليس فقيهاً وصاحب راي حتى عزل من منصب رئاسة المحكمة الشرعية العليا..هنا لا ينبغي التوهم أنَّ أصحاب هذه الآراء المخالفة لم يدفعوا ثمنها في مقابل المتحجِّرين من رجال الحوزة الدينية الذين لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام كل إبداع في الفقه فكانوا يقومون بتحريض الناس ضدهم ، كما نرى عندما أفتى السيد محسن الأمين بحرمة التطبير ، ووقف معه آنذاك مرجع الطائفة أبو الحسن الأصفهاني..كان العوام وبتحريك من بعض رجال الحوزة يسقون الماء ويقولون إشرب الماء والعن يزيد ومحسن الأمين..وعندما سمح المرجع كاظم الشيرازي لأبنائه التعلم في المدارس الرسمية شنُّوا عليه حملة شعواء حتى اضطرَّ للإنزواء والعزلة ، وبعد أن دعا الشيخ عبد الكريم الزنجاني الناس في المسجد الأموي في دمشق إلى التصدي للإستعمار تعرَّض من قِبَل الغوغائيين والمتحجرين فبقي جليس الدار إلى آخر عمره ، وأيضاً قد نال قسطاً السيد محمد حسين فضل الله بأنه خارج عن العقيدة وأنه ضالٌّ ومضلٌّ..وأيضاً العلامة السيد علي الأمين الذي شرع بوضع النماذج التطويرية للحوزة والآراء التجديدية الآيلة إلى إضاءة عناصر الإبداع في الإسلام والتقريب بين المذاهب ، بأنه خارج عن الملَّة والمذهب..نعوذ بالله من هذه المواقف الخارجة عن الأخلاق والنقد الموضوعي والعلمي وما زلنا نرى الإتهامات من قِبَل الحوزة وما زالوا إلى الآن يمطرون جهلة الناس الذين ربُّوهم على الطائفية والتعصُّب باسم الحوزة وعلى حساب الحوزة والأنكى من ذلك أنهم يظنون أنَّ الله تعالى قد حفظ الحوزة بهم وفي الواقع بأنَّ الذي يحفظها هي مصالحهم وتطلعاتهم الدنيوية إذ جعلوها مقصداً لطلب الحوائج وملجأ لنُجح المطالب... ولهذا يجب ألاَّ ننفعل في مقابل الأفكار الجديدة والمدارس الفكرية والثقافية الواردة من معطيات النهضة الجديدة ، ولا ينبغي أن نتهم أصحاب الأفكار الجديدة بالجهل والعمالة أو الإستغراب والإستيلاب وأمثال ذلك فإنَّ الكثير من النظريات المشهورة لدى المسلمين كانت في البداية تمثِّل رأياً شاذَّاً ومنحرفاً في نظر السابقين والآراء الشاذة بل والباطلة أيضاً تؤدِّي إلى فتح آفاق جديدة على المحققين وبإمكانهم التعمق في النظريات السائدة والمشهورة ورفع نقاط الضعف فيها.........الشيخ عباس حايك