إنها لحظة لا تكتب لحظة الإنفلات والإنعتاق عن الذات..لحظة تبدو فيها كثافة الحبر بقيعة سراب في صحراء اللغة ، واليراعة فراشة تمرِّغ أنف الألوان بِقَاعَين من حبرٍ وقبرٍ ، وشُواظ اليراع أحمله على أوراق دفاتري وكتفين مثقلين بتاريخ كثُرت فيه الظلمات وقلَّ فيه الضوء الذي فرضته الرقابة السياسية وتحكَّمت في رقابه الخلافة منذ العصر الأول والتزم سلفاً ان يصبح تاريخاً تسجيليَّاً منحازاً لا يرى الأحداث من واقع الناس بل من واقع السلطة والخليفة...هنا أسكب ما تبقَّى من دواة العين ومن حبرٍ وقهرٍ لأفتح من خصائص القبر نافذة على الحياة التي لا يعرفها إلاَّ من أتى الله بقلبٍ سليم..أحاول أن أرثو نفسي الضائعة بين إمارة وأمَّارة وأن أهرب إلى رحمة تنجيني من عذاب أليم...على مهلٍ أبحر خلف رمال الصحراء المحرقة وفوقنا سماء من النَّوارس المهاجرة إلى شواطئ الإطمئنان لأنَّ كل شيء في اللغة حسنٌ وكل شيء ليس حسناً في الواقع فهذا هو الهدف الأساسي في التاريخ للسحرة والساحر الذي يحتاج إلى واقع غريب عن عالم الناس من دون أن يكون غريباً عن لغتهم...إلى متى نظل نعبد أصناماً في التاريخ بعد صنم ، وإلى متى نقول بأفواهنا ما ليس في قلوبنا ، إلى متى ندَّعي الصدق ، والكذب شعارنا ودثارنا...إلى متى نبقى نستظل بشجرة تقلَّص ظلُّها، إلى متى نظل نبتلع السموم ونحن نظن أنَّ الشفاء فيها..ربما يصحو الأحياء الموتى إذا ما انتبهوا ، وربما يظن الأحياء أنهم يشيِّعون الموتى ولا يدرون أنَّ الأموات الذين يظنونهم نائمين في الصناديق هم الذين يحملون نعوشهم...والبعض منهم يعتبر المقابر من حيث تتواجد اللحود والشواهد ورميم العظام ولا يعلم أنَّ المقابر هي مدن الفقر وأحياء الجهل وأوطان الغربة..أحسد من يظن أنه إستفاق يوماً من أيام العمر والتاريخ ولم ينم في مقبرةٍ قريبة أو بعيدة من مقابرنا الإسلامية والعربية..أشك بأن يكون العربي قد وُلِد أو ولدته الطبيعة واختارته رقيباً عليها..كل ظني القادم من يقين العقل أنَّ الكثيرين ممَّن يظنون أنفسهم عرباً أحياءاً لا يموتون لأنهم لم يولدوا بعد...عذراً إن غفا الحبر وخبا وهج الجمر في تاريخنا فما زلنا نعاين الداخلين من مقابرنا إلى حياة جنَّاتهم ونحن نفصِّل أكفانهم ونبني أحجار برازخهم ونردم لحودهم ونُسرع الخطى عائدين إلى قصور زينتنا ولا نهتم بيوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلاَّ من أتى الله بقلبٍ من تراب الفقراء والمحرومين..