إنّ الحركات التي ظهرت في عدّة بلدان عربيّة كانت ردة فعل على منطق الإستبداد والإستئثار للفريق الواحد بالسلطة ومغانمها وما يتبع ذلك من فساد.

وقد استمرّت هذه الحالة عقوداً عديدة أدّت إلى اتساع الفجوة بين الطبقة الحاكمة والشعب الذي لم يكن لديه المجال للتعبير عن أوجاعه وآماله من خلال المؤسسات التي تحوّلت أداة لحفظ الحاكم ونظامه ولذلك خرج إلى الشارع مطالباً بالحريّة والعيش الكريم بعدما تراكمت ليالي القهر والإستبداد وقد كانت الأسباب في معظمها سياسية واجتماعية ولم تكن لأسباب دينية ولذلك كانت صور المشاركة عامّة من كلّ فئات الشّعب ومكوّناته الدّينيّة والسياسيّة وبعضهم وإن رفع شعارات دينيّة فلأجل أنه يرى في المبادئ الدينية طريقاً لتحقيق الحريّة والعدالة الإجتماعيّة لكلّ أفراد الشّعب.

ونحن من خلال الشّعارات التي رُفعت والتضحيات التي حصلت في سبيلها لا نرى مبرّراً للخوف من المستقبل على طبيعة العلاقات بين مكوّنات الشّعب الدينية والعرقيّة لأنّ من يرفع شعارات الحريّة والعدالة اليوم، يُسقط نفسه في المستقبل إذا مارسها فئوياً أو طائفياً !. ولذلك وجدنا أنّ أكثر الحركات الإسلاميّة بدأت منذ مدّة غير قصيرة تتّجه في برامجها وشعاراتها نحو الدّولة المدنيّة وعبّرت عن ذلك في وثائقها السّياسيّة في أكثر من مكان.

والّذي أراه أنّ الّذي صنع الهواجس لدى المواطن العربيّ في هذه الثّورات هي وسائل إعلاميّة ورجالات من أهل السياسة والدّين من خلال إضفاء الطّابع الدّيني والمذهبي على تلك الحركات الشّعبيّة التي انطلقت للإصلاح والتغيير وجعلت -عن قصد أو غير قصد- النظامَ حامياً للطّائفة الدينية أو المذهب في الوقت الّذي نعرف أنّ النّظام لا تعنيه الطوائف والمذاهب والأديان بقدر ما يعنيه بقاء النّظام مسيطراً وحاكماً وفي الوقت الذي نرى فيه أيضاً أنّ الشعارات التي يرفعها المتظاهرون لا تمتّ إلى الطائفيّة والمذهبيّة بصلة.

فلم نسمع بهذا التّصنيف الدّيني لحركة الصّراع في تونس ولا في مصر ولا في ليبيا ولكن بدأنا نسمع بذلك كثيراً عن ذلك التّصنيف الطائفي للحركة الشّعبيّة في سوريا من رجال دين وأصحاب رأي وقلم بأنّ المعركة هي بين العلويين والشيعة وبين السنّة وأنّ المسيحيين سيصبحون في خطر وهم -القائلون- بذلك من حيث يشعرون أو لا يشعرون يؤججون نار العداوة بين الطّوائف ويشوّهون صورة الحراك الشعبي ومطالبه المشروعة في الإصلاح والتغيير وكلّنا يعلم أنّ النظام في سوريا حتّى الساعة هو نظام فيه من كلّ الطّوائف والأديان وكذلك هي الحال بالنسبة إلى الشّعب ومطالبه التي نسمعها ونراها ليس فيها ما يوحي بسوى السّعي نحو الإصلاح الذي يعود نفعه على جميع المواطنين.

وهنا يأتي الدّور الكبير المناط برجال الفكر و الدّين وهيئات الحوار في المزيد من اللقاءات الحواريّة بين أهل الفكر والدّين فإنّها تساهم بلا شكّ إلى حدّ بعيد  في تبديد تلك الهواجس المصطنعة إضعافاً للقوى المطالبة بالإصلاح ولإبقاء الواقع القائم في بعض الأنظمة والبلدان على ما هو عليه دون تغيير وكأنه الواقع المثالي.

وهذا الدّور الحواري ليس مجرّد دورٍ شكليّ نقوم به في المناسبات بل هو مسؤولية دينية ووطنية وإنسانيّة من أجل ترسيخ العيش المشترك في وطننا لبنان وعلاقات التسامح في المنطقة والعالم.

ولذلك يجب تفعيل الهيئات الحواريّة في مجتمعاتنا وعدم الإقتصار على لقاءات رسميّة تحصل لبعض الأحداث ثمّ ينقطع التواصل انتظاراً لحدث جديد.

إن الحوار الذي نريده بين الطوائف اللبنانية ونتطلع إليه هو الحوار الذي تغنيه مسيرة طويلة من العيش معاً والتعارف والتواصل في المنطقة الواحدة والوطن الواحد والبيت الواحد في أحيان كثيرة ، ونريده أن يصبح معهداً دائماً للحوار ننتسب إليه من كلّ الطوائف ، وقد دامت هذه المسيرة الحواريّة ذات الطابع العملي أجيالاً عديدة ولا تزال بعض صورها حيّة في ذاكرتنا والبعض الآخر هو واقع ماثل للعيان .

ولذلك فإنّ حوارنا اليوم ليس البداية ، وإنما هو تواصل مع تلك المدرسة و المسيرة الحواريّة التي صنعها السابقون وورثها اللاحقون وهي تستبطن قبول بعضنا بالبعض الآخر  كلٌّ كما هو، وباستمرار الحوار يتمّ المزيد من التعارف والتّفاهم المتبادل وترتقي وتترسّخ المعاملة السليمة بين طوائفنا وشعوبنا النابعة من الإحترام لما نؤمن به من قيم دينية ومبادئ إنسانيّة وبذلك نحفظ بلادنا ومجتمعاتنا من الفتن وهنا يتجلّى الدّور المهمّ الذي يمكن أن يقوم به لبنان على صعيد تنفيس الإحتقانات الطائفية والمذهبيّة في المنطقة فكلّما كنّا النّموذج الصحيح في العيش والحوار كلّما ساهمنا وساهم لبنان ليس في إنقاذ نفسه من الفتن والنزاعات فحسب ، بل في إنقاذ غيره من الشعوب والأوطان ليكون بذلك رسول المحبّة والدّعوة لخير الإنسانية جمعاء.