كالعادة، وأنا أتصفَّح وجه صفحة "الفيسبوك" الخاصة بي، شدَّني منشور لصديقٍ نشر كتاباً على صفحته بعنوان: (المثقَّف الضالّ ـ قصص واقعية من التاريخ والحاضر) للمثقَّف الضالّ الصديق الدكتور طارق أحمد شمس) جذبني عنوان الكتاب، ونويت أن أتواصل مع صديقي الدكتور للحصول على الكتاب، إلاَّ أنَّ همومنا وابتلآءتنا التي تيسطر كثيراً على عقولنا وبطوننا وما يجري في هذا الوطن المهجور من شظف العيش ومرارة الحياة، لأننا مخلوقين بلا فرح، حينها لا تنفع مع ذلك حكمة ولا قراءة ولا كتاب، حتى أصبح قرص الشمس رغيف خبز نلاحقه باستمرار من الشروق وحتى سقوط رغيف الشمس في الماء الأُجَاج، ونسيت ذلك كلياً، وما أنسانيه إلا الشيطان مع فرعون وشقيقه، فيسقط وتسقط معه كل أنواع الخطب والمواعظ عند الأمعاء الخاوية، فهرمنا وأحسسنا بالكبر من حين أقمنا صلاة الميت على أحلامنا، فحسب ابن آدم من الزمان مداه، وحسب الزمان من ابن آدم صوته ووجهه. 
في اليوم الثاني يطرق بابي ديوانيتي المخصصة للثقافة الضَّالة صديقٌ يحمل معه نفس الكتاب، وقفتُ مبهوراً يا للمصادفة!. فعلاً هذا ما حصل في واقع الأمر بين الأمس واليوم. شدَّني حروف الإهداء الحرونة في زمنٍ يغلب فيه التلقين على اليقين والنقل على العقل، لأنه فرقٌ كبير بين الدراية والرواية، كالفرق ما بين الكتاب والسرير. بدأت بقراءة الكتاب الذي استغرق من ساعات الوقت خمسة، نعم، هو صغيرٌ بحجمه، مركَّز الفكرة، مفعمٌ بالجرأة والشجاعة، وقد يثير الجدل، إنه مقصدٌ لم يخطئه صاحبه، وهو المثقَّف والناقد الذي خرج على المألوف، وليس هو المثقَّف الاحترافي الذي يكتب ما يُملى عليه. في فصله الثالث والأخير من الكتاب، الذي تشافيتُ معه وتسابقتُ مع اللغة التي أثلجت صدري لا من فرحٍ بقدر من الوجع، والذي سكن فينا وفي زوايا زواريبنا الضيقة، حتى الأوسمة المعلَّقة على صدر التراب، والتي جُمِعت وجَمعها صاحبي في كيس السوق ولم يشترها أحدٌ من تجَّار الخُردة، وبائعي الأحذية الأوروبية المستعملة، وما أحوجنا إليها عندما يشتدُّ بنا الحصار والألم، ويرفسنا الجوع إلى زوايا غير مرئية، وتعبث فينا روائح المارَّة، وأحذية الأغنياء، لأننا ولدنا في كومة بؤس، وفي مقبرة الأحزان، ولعبنا خلف الأضرحة، وما بين الأموات والتراب، وكأننا لم نعرف أنَّ خلف سدول الليل، أضواء مدينة، وبيوت من مرآة، وكنَّا يا صديقي نظنُّ أنَّ بقعة الأشباح هي كل الأرض، وأنَّ الأموات هم الأحياء الذين مضوا وهم يتأملون في أصول الأشياء. تعالَ أيها المثقَّف الضالّ عن ضلالتك إلى الهداية واليقظة حين ينام الكل، فلا تزيدنا ضَلالاً وضَلالة، ولا تزيد في غربتنا غربة، وفقرنا فقراً، على مقربةٍ من جنة منتجع الأغنياء والسماسرة ولصوص السياسة وباعة الأوطان والميتة والدم ولحم الفقراء.
عذراً منك أيها الضالّ، ما أنت إلاَّ فقيرٌ تبيع الحبر على طرقات الأوراق والدفاتر، وحظك عاثر مثل حظ (أبوحيان) المتعثِّر في طريق الرغيف، والذنب هو ذنبك، لأنك فتحت دكاناً للعقل، وبضاعته كاسدة، فلا زبائن ولا من يبتاع، وتبقى عاثراً وعابراً في الطرقات مثل الزواريب الضيقة، كزاروب بيت الدكتور طارق الذي يشبه ساحة للزحلقة ـ ويبقى سقف بيته مقاوم وركن بيته مجاهد وزاروبه ساحة للزحلقة ـ وبقي رافعاً يديه داعياً ربه بأن تمطر السماء عليه سمكاً، لحبه الشديد بأكله، وكم غنَّى مع الحاج علوش (يا سمك يا بوري يا محلِّي أموري، طولك من طولي، عرضك من عرضي، آه يا سمك يا بوري) بالرغم من صغر مائدته التي تتسع إلى شخصين فقط، الموجودة في البيت الذي ورثه عن أجداده في الزمن العثماني الشاهد على الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما زال منتظراً نزول سمكةٍ واحدة، وفي الحصار يتذكَّر إسم السمك ـ شم ولا تذوق ـ بحسب تعبيره ـ وبقى رافعاً يديه لا إسم له ولا عنوان، مجرَّد أقدام تمشي ولا تدري إلى أين، والخيال يرسم السراب على الرمال والجدران مثل نخيل الليل، وإسمه طارق ـ والنجم والطارق ـ  وعائلته شمس ـ والشمس تجري لمستقرٍ لها ـ رغم أنَّ وجهه مثل يوسف، تُشرق منه الشموس وتسبح فيه الأفلاك، ولكن إخوته لم يسروه بضاعة مزجاة، ولم يسجدوا له، بعد أن باعوه بثمنٍ بخسٍ دراهم معدوداتٍ ولوَّنوا بأحقادهم الدفينة قميص الخيانة. تعالَ.... يا صديقي لتمسك حسك السمك، التي تحمل كفر الفقر إلى المعابد والكنائس والمساجد لتُصلِّي صلاة الشكر على نعمه كلها. تعالَ.... يا صديقي معي وصلِّي مثلي راكعاً أو ساجداً، وطأطئ الرأس طيفة وخشية، وإلاَّ قطعه سيف السلطان، ومشيت بلا رأس وأصبحت فزَّاعة لعصافير الشوك.
وأخيراً... سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً حتى لا يُرى ولا يَرى سلاطين وفراعنة وسماسرة وحكّأم عباد وبلاد، ولا يَرى قصوراً ولا بيوتاً أُسِّست على الخداع والقتل والسحق والقمع، وصوامع يفتحها الحواريُّون والقسِّيسون للبغاة والزناة والثوريين وأصحاب الرايات الملونات وأصحاب الفنادق والبنادق والثغور والانقلابات وحركات التحرُّر من الاستعمار.