نعم، إنه الوجه الآخر، دوماً هناك وجه آخر لأي وجه، إنه الوجه الذي نهرب من حقيقته ونرفض أن نراه، ولا نريد أن نعترف بحقيقته ووجوده، ونبقى مصرِّين على تناسيه ونسيانه، ومحاولين أن نرميه في أعماق نفوسنا وذواتنا، لأننا نرتاع ونخاف من وقاحته وقبحه وبشاعته ونتانته وقذارته وعينيه المحدَّقتين كأحداق بقرة ميتة. الوجه الآخر للبلد والقرية والشارع، هناك.... مزاريب وزواريب ليلية ومجارير ومجاري مكشوفة، هناك.... ذباب وحشرات وزواحف، وعلق ودود ودم، وجوع وخوف ومرض وكآبة ومرض أعصاب وأنين وارتجاف اللآمسؤول، وضلام دامس وظلمة قاتمة لا يستطيع أي بصيص نور أن يخفف وجعه ووطأته، هناك.... موت. الوجه الآخر لمدينتكم وبلدكم، حيث هناك يسخرون منكم، من ملابسكم ونظافتكم وأناقتكم، هناك مَن يعيرونكم، وهذا ما اعترف به المجرم الطاعن بالسن وقرر التوبة، فقال: أنكم فقدتم طهارة الجريمة، فاليوم بعد كل البلايا والمصايب والأوجاع وما حلَّ بكم، فلم تعودوا تغرسون أنيابكم في أحياء الجثة، فالقرية والبلد بخير، فما ترونه اليوم من معاناة في عيش الحياة، وما ترون من قمامة قذرة في أغلب الرساتيق والشوارع، وأزمة المياه والكهرباء وانهيار التعليم في مدارس الوطن الذي هو انهيار لكم وللمجتمع ولأجيالكم ومستقبلهم، وما ترونه من عناءٍ في المستشفيات وأزمة الدواء، وكل هذه المآسي إنها من خداع البصر والبصير، فأنتم بألف خير، وأنا فقط المجرم الذي اقترفت جرائم لا يعاقب عليها قانون وليست مذكورة في ألواح الدساتير والأنظمة، ولا تنعقد لها جلسات محاكمة في محكمات البلد، ولا يوضع فيها الجاني في السجن، ولا ترى فيها محامون يدافعون عنها ولا بيانات تصدر عن الجمعيات واللقاءات والنقابات، ولا ترى فيها زعيقٍ من هنا أو هناك. كلكم ملائكة الرحمن، وفقط أنا المجرم الشيطان الذي يوسوس لكم في مخادعكم ويمنعكم عن صلاة الشفع والوتر وقرآن الفجر. صه أيها المجرم؟ أخبرنا عن تلك الفتاة الفقيرة التي طرقت باب مكتبك وهي تطلب مساعدة، أخبرنا عن جسدها الملفوف وقوامها اللين وعينيها الباكيتين، أخبرنا عن ليلة الجريمة وعن صراخها وصرخاتها المجنونة. أخبرنا أيها المجرم عن ذاك الوجه القذر الذي رأيته صباحاً وهو يضم أشلاء جسده المنهك العجوز، هامساً في أذنيك ومتوسلاً أن تعينه في هذا اليوم فقط للعيش. هل تخبرنا كيف كنت تلاعب لحيتك الكثَّة وتداعبها وتبسمل وتحوقل وأنت تحسب أرباحك عند كل صفقة وأنت ترتل كلام الله ( أحلَّ الله البيع وحرَّم الربا) نعم أحل التجارة، والتجارة ربح وخسارة. خذوه وغلٍّوه، إنه صراع الأقوياء، والبقاء للأقوى، وليس للأصلح، والدنيا لمن غلبا. الشيخ عباس حايك