لربما...
 أصابت قليلاً في الساعة الأخيرة من الليل، ومن شمعتها المتبقية في غلسة الصمت، وما تبقَّى من رمادٍ وزيت، وصفَّارة أرباريقها الفضِّية ترسل السخونة من غرفتها، لتمسح نُعاس الشمس عن مرايا الشبابيك والجدران، وعلى سرير الذكريات، وأمامها صور، وأسرار، وفراشات.
 بقيت تلك الساعة وحيدةً تسكن بيت الوقت، وجرس العقرب يوقظها، كلما غفت من سهرة الحلم، وتحاول التسلُّل خلسةً على لصوص أصابعها، لتقرأ ما تيسَّر من دفترها الخاص، وتكتب عن أسماء وأشياء وتواريخ الميلاد والأحداث، لعلها تجمع في كيس اللغة إسماً خاصاً، حتى تدخل في كساء الحب والعشق، فقرأت شعراً، وكتبت على رمل الجمر تواريخ خاصة، كي ما تأكل النار من لحم الإنتظار، وتبقى إيلاف رحلة، وثرثرة دخان... 
هي شمسٌ...
 تتعجَّب من لغةٍ لا تقدِّر ذاتها، ولا تستحي من نفسها، وهي تظهر مفاتنها أمام الباعة والعامة، وتحاول أن تغري المسنيِّن باحدى فساتينها الشفَّافة ، لعلَّ ، وعسى؟. لكنها اتخذت من سرير الأسرار التي تثق بشرشفه ووسادته، وفرشة الإسفنج المضغوط... ولربما لا تثق تلك اللغة بنفسها، عندما يغادرها المعشوق ليلاً إلى فراشٍ موحش، ملتحفة غيمة، مثقلةً بأرق العمر الذي لا ينام...
هنا، حاولتُ أن ألتمس دربها في لغة الرواية، أو مكانٍ أخر من جغرافية جسدها، أو منطقة حسَّاسة، أو غير مأهولة، وما زالت تضاريس آمنة غير محفَّرة بأزاميل النَّحاتين...
وهنا ـ أيضاً ـ حاولتُ أن أجمع حروفها الضوئية في سلال الليل، وألتقطُ النقاط في زوايا تفاصيلها الكثيرة والفواصل من تعرُّجات جسدها الشمسي... 
ليتها، عبرت مساء اللغة، لتيسَّر لي ما أقرأ وما لا أقرأ من زوايا وخبايا.. ولكن، قرأتها كما قرأتُ الأدب والشعر والرواية  باكراً، في لحظة استيداع لجنِّ اللحن من القول.. تشافيتُ معها، وتسابقت مع جرأة اللغة التي فتنتني كامرأةٍ في قصيدة، وأنثى في رواية... 
ربما، تاهت مني شذرات ضوءٍ، بعد أن لاحَ لي ألف نجمٍ ونجمة، وعادت لنا من جديد، لنتشابك معها على حافة هذا الوطن المهجور، وكينبوعٍ عاد للحياة من جلمود صخر. 
عبثاً، حاولتُ ألاَّ أقرأها، بعد أن قرأتُ ما فيها وما لا يتوفر فيها، فشدَّني الحرف الحرون، وألزمني القراءة لأكثر من مرة، لعلي أرتوي من نهر الرواية والحكاية والقصة والقصص، والأسطورة أيضاً، فارتويتُ منها قبل أن أشرب من بئر يوسف.    
هل تسمحين ـ يا شمس ـ بقراءة الكف ووجه الرواية، وما بين السطور ومجرى النهر؟. فاغتسلت تحت شلال الغضائر، وغفوتُ قليلاً تحت فيء نخلة، لعلي أسمع وأرى، فأنا فاقدٌ للسمع والبصر منذ الشهادة... 
حاولتُ هنا، تفكيك الرموز في سُود الأهداب، والنظرة الشاردة في التنهدات الباردة، لتستفيق علامات التعجُّب أمام القلب الصامد في وجه الأهوال الماردة. 
لكن؟ ستبقى ـ شمس ـ وستبقين أكثر من سؤال؟ وعلامة تعجُّب! وأوراق من شجر، وحسام جلدها الأسمر.
 لربما.... يكون اسمها الحقيقي، ودليلها الخاص، ورزنامة المواعيد، فأطالت السهر مع الدفتر، فأنجزت سريعاً المهمة الصعبة، لأنها ـ أنثى ـ فأخطأت وأضلت السبيل، وأخطأنا معها، من خلف الستارة، راقبتها خلسة من دون استحياء، وهي واقفة على خشبة المسرح ورصيف الانتظار، وخلفها جمهور من ذكور، وأمامها ذكور من جمهور ـ وجماهير ـ ولا همَّ لديهم، سواء طمثت أم لم تطمث، المهم أنها تنام في سرير السكون...
ربما، شعرتُ بشيء من إزعاج، وأنا أتصفح وجه الفنجان، وما فيه من أسرار ورسومات وتعرجات، وتلالُ بُنٍّ، وكثافات سود، من ليل شعر طويل. وربما هي انتظرته، وانتظرها هو، في قصر الفنجان، لم يغارد، لن يبرح، بقي مثل الحرس الملكي،  مسمَّراً أمام التاج، وخلف الباب...
 يا سيدة الرماد، وما فيه من شتاء، أنكِ تصطلينَ دفء، وأنكِ أوائل الصحو، وآخر الغيمات، وأنكِ تكتبين وتقرأين بأصابع من نار حطب العمر، فيشعل اليباس في حضن جهنم، فيخضر العود، وينتشرُ زهر الجمر، فتدثَّر ـ عمر ـ عشب جلبابك الأخضر...
عذراً... غفا حبري، وانكسر القلم.. فأنا أخطئ كثيراً..
الشيخ عباس حايك
النبطية ـ عدشيت ـ 19 ـ 7 ـ 2023م.