هل المراد من الكافر في الآيات والروايات غير المسلم، أو أنه مخصوص بأولئك الذين ينكرون الدين من علم ومعرفة واطلاع؟ بعبارة أخرى: هل الكافر هو مطلق غير المسلم، سواء كان قاصراً أم مقصِّراً، أو أن تعبير الكافر يختص بغير المسلم عندما يكون مقصِّراً؟. قبل الإجابة، نود أن نشير إلى أنه يوجد ما يسمَّى بعلم (الوجوه والنظائر في القرآن الكريم) ومن أهم من كتب في هذا (مقاتل بن سليمان ـ ت 150ه ـ 767م) وهو المعروف من أعلام المفسِّرين، حيث أورد أنَّ (الكفر) يأتي على أربعة أوجه في القرآن الكريم:

 

الأول: الكفر بتوحيد الله تعالى والإنكار له، كقوله تعالى: (إنَّ الذين كفروا سواءٌ عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) البقرة ـ آية 6، يعني الذين كفروا بتوحيد الله، ونحوه كثير.

 

الثاني: يعني كفر الجحود: فذلك قوله،عزوجل:( فلمَّا جاءهم مَّا عرفوا كفروا به) البقرة ـ آية 89، وهم يعرفونه. نظير قوله:(ولله على الناس حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلاً وَمَن كفر) يعني من كفر بالحج إلى البيت الحرام من أهل الكتاب وأهل الأديان ولم يقر بأن الحج واجب فجحد به، (فإنَّ الله غني عن العالمين) آل عمران ـ آية97، يعني عن أهل الكتاب وغيرهم، ونحوه كثير.

 

الثالث: الكفر بالنعمة: فذلك قوله تعالى في البقرة ـ آية 152(واشكروا لي ولا تكفرون) يعني نعمتي، ومثله كثير. الرابع: يعني: البراءة، فذلك قوله تعالى في إبراهيم ـ آية 22، حكاية عن قول إبليس لمن أطاعه:(إني كفرتُ بما أشركتموني من قبل) يعني تبرأت، ونحوه كثير. حان الآن الإجابة عن السؤال؟ الذي نجده في تعبيرات الفقهاء هو المعنى العام لكلمة (كافر) بحيث يشمل القاصر والمقصِّر، إلاَّ أنَّ هناك جملة من الفقهاء الأعلام أمثال آية الله الشيخ يوسف الصانعي، الذي يرى أنَّ الكافر في مصطلح القرآن والسنة يختص بغير المسلم إذا كان مقصِّراً، ولا يشمل الأفراد القاصرين، بعبارة أخرى: يطلق الكافر فقط على خصوص الأفراد المعاندين والمنكرين، الذين يعرفون الحق وينكرونه، ويعرفون حقية الله والآيات النازلة على رسوله لكنهم ـ مع هذا اليقين ـ ينكرون الله أو آياته النازلة أو أنبياءه المرسلين من عنده، وعليه فالقاصرون البعيدون عن الحقيقة، لجهالتهم وعجزهم عن البحث، ليسوا كافرين. الشاهد على هذا الادعاء هو: 1 ـ لقد جاء الوعيد بالعذاب والنار في موارد كثيرة جداً من القرآن والسنة بحق الكافر، ومن الواضح أن القاصر غير المسلم ليس مشمولاً ـ بحكم العقل والنقل ـ للوعيد بالعذاب والنار، أولاً: لأنَّ تعذيب مثل هؤلاء ظلم وخلاف للعدل، ومشمول لقاعدة ـ قبح العقاب بلا بيان ـ وثانياً: قد صرَّح القرآن بهذا الأمر عندما قال: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) الإسراء ـ آية 15.

 

وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من الأصوليين استدل بهذه الآية على البراءة، وفهموا من تعبير "الرسول" الوارد فيها الإشارة إلى الحجة والدليل، فمع الأخذ بعين الاعتبار هذه الآية مع الآيات التي تتوعد الكافرين بالعذاب نفهم أن العذاب والعقوبة يترتبان على إبلاغ الدليل والحجة، أما من لم تصله الحجة ولا الدليل ولم يكن لديه علم بالحجة والحق فلا يطلق عليه وصف الكافر، إذ لو أطلق عليه هذا الوصف لصار مشمولاً للعذاب، فيما هذه الآية تصرِّح بنفي العذاب دون إبلاغ الحجة. 2 ـ جاء في عدة روايات تعريف الكافر ضمن عدة قيود لا تشمل سوى المقصِّر، ونشير هنا إلى روايتين فقط من باب المثال: أ ـ يقول الإمام علي (ع) في الخطبة الثانية من صلاة الجمعة: (..... اللهم عذِّب كفرة أهل الكتاب، الذين يصدُّون عن سبيلك، ويجحدون آياتك، ويكذِّبون رسلك....) ـ من لا يحضره الفقيه ـ ج 1 ـ ص 277 ـ حديث 1262 ـ وقد اعتبر العلامة المجلسي في روضة المتقين هذه الخطبة من أفضل الخطب، موصياً بالمداومة عليها، قائلاً: "وهذه الخطبة، والخطبة الكبيرة التي رواه الكليني في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) من أحسن الخطب المروية، فينبغي المداومة عليها، انظر: روضة المتقين ـ ج2 ـ ص 606.. في هذه الخطبة والنص عن الإمام علي (ع) يدعو على الكفار من أهل الكتاب، لا على تمام أهل الكتاب، ثم يقوم بتوصيفهم بأنهم سدُّوا الطريق إلى الله تعالى، وجحدوا بالآيات، وأنكروا وكذبوا الرسل....، إنَّ هذه التقييدات والتوصيفات في مقام تعريف الكفار من أهل الكتاب تدلُّ على أن الكافر عنوانٌ لا يطلق سوى على الجاحد، ولا يشمل الأفراد القاصرين، فالكفر أخصّ من عدم الإسلام، وفي إطلاق وصف الكافر هناك موضوعية للعناد مع العلم، لأن كلمة الجحود في اللغة العربية تعني الإنكار عن علم، واستخدمت في ذلك. يقول الفيومي في ذيل كلمة "جَحَدَهُ": "حقه وبحقه (جحداً) و(جحوداً) أنكره، ولا يكون إلا على علم من الجاحد به" ـ المصباح المنير: ص91.

 

وفسَّر الراغب "جحد" بما يلي: "الجحود نفي ما في القلب إثباته، وإثبات ما في القلب نفيه" ـ مفردات غريب القرآن ـ ص 88. وجاء في المنجد: " جَحَدَ: جَحْداً وجحوداً: كفر به ـ كذبه ـ حقه وبحقه أنكر مع علمه به فهو جاحد" ـ المنجد ص 79.  ب ـ رواية أبي عمرو الزبيدي، عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: "قال: قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عزَّ وجلَّ، قال: الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه، فمنها: كفر الجحود، والجحود على وجهين؛ والكفر بترك ما أمر الله، وكفر البراءة، وكفر النعمة؛ فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية، وهو قول من يقول: لا رب ولا جنة ولا نار، وهو قول صنفين من الزنادقة، يقال لهم: الدهرية، وهم الذين يقولون: (وما يهلكنا إلا الدهر) ـ الجاثية ـ آية 24، وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان على غير تثبت منهم ولا تحقيق لشيء مما يقولون، قال الله عزَّ وجلَّ:(إن هم إلا يظنُّون) ـ الجاثية ـ آية 24، أن ذلك كما يقولون. وقال: (إن الذين كفروا سواءٌ عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) ـ البقرة ـ آية 6، يعني بتوحيد الله تعالى، فهذا أحد وجوه الكفر. وأما الوجه الآخر من الجحود على معرفة، وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنه حق قد استقرَّ عنده، وقد قال الله تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعُلُواً) ـ النمل ـ آية 14، وقال: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا به فلعنة الله على الكافرين) ـ البقرة ـ آية 89، فهذا تفسير وجهي الجحود...." الكافي ـ ج2 ـ ص 389.  وحيث استشهد الإمام (ع) في هذه الرواية من القرآن الكريم فمن المناسب الإشارة إلى الأحاديث التفسيرية لهذه الآيات، الأمر الذي يؤيد مدَّعانا هنا؛ فيذهب صاحب تفسير الميزان في ذيل الآية 23 من سورة الجاثية: (أفرأيت مَن اتخذ إلهه هواه وأضَّلَّه الله على علم...) إلى معنى الآية  ـ حيث قدَّم الله تعالى فيها كلمة "إلهه" على كلمة "هواه" ـ أولئك الذي ينكرون الله مع علمهم بوجوده وبلزوم عبادته، لكنهم رغم علمهم يضعون هواهم مكان الله سبحانه فيعبدونه، وهذا مؤداه أن مثل هذا الشخص يغدوا كافراً بالله مع علمه به؛ لهذا استمرت الآية بالقول: (وأضَّلَّه الله على علم..) أي أنه ضلَّ من جانب الله، لكن هذا الإضلال من ذات الباري تعالى إنما جاء لاتباع الكافر هوى نفسه، مع علمه بالله سبحانه ووجوب العبودية له. ـ الميزان في تفسير القرآن ـ ج18 ـ ص 167 ـ 176. نستنتج من بيان صاحب الميزان: أن الكفر يعني ـ أولاً ـ الإنكار مع علم، وأن إضلال الكافر إنما هو ـ ثانياً ـ لعلمه بالله سبحانه، وهذا الإضلال مترتب ومستقر على علم الكافر، لا أن الله أضلَّ الكافر عن علم من الله تعالى. والشاهد الثالث على مدعانا هو اللغة؛ لأن الكفر في اللغة بمعنى الستر، حيث يقول الراغب الأصفهاني في معناه: "الكفر في اللغة: ستر الشيء، ووصف الليل بالكافر لستره الأشخاص، والزارع لستره البذر في الأرض...؛ كفر النعمة وكفرانها سترها بترك أداء شكرها" ـ مفردات غريب القرآن ـ ص 433. وقد فسَّر في "الصحاح" الكفر بهذ المعنى أيضاً، حيث قال: "الكافر: الليل المظلم، لأنه ستر كل شيء بظلمته، والكافر: الذي كفر درعه بثوب، أي غطَّاه ولبسه فوقه، وكل شيء غطى شيئاً فقد كفره. قال ابن السكِّيت: ومنه سمّي الكافر، لأنه يستر نعم الله عليه...، والكافر: الزارع؛ لأنه يغطِّي البذر بالتراب" ـ الصحاح ـ ج 1 ـ ص 651. وكتب الفيروزآبادي في "القاموس" في معنى الكفر قائلاً: "....وكفر نعمة الله، وبها كُفوراً وكُفراناً: جحدها وسترها.

 

وكَافَرَه حقه: جحده. والمكفَّر كمعظَّم: المجحود النعمة مع إحسانه. وكافر: جاحد لأنعم الله تعالى" ـ القاموس المحيط ـ ص 424. وقد نقل ابن منظور هذا الكلام من الفيروزآبادي بطوله. ـ لسان العرب ـ ج 12 ـ ص 118. ومن الواضح أنه لا ستر بلا معرفة وإدراك، فلا يقال: ساتر إلا لمن علم بشيء ثم أنكره، أما الغافل الذي لا اطلاع له على غير المعتقدات الباطلة فلا يقال له: ساتر. وقد جاء في تعليقة كتاب "القوانين" في مبحث عدم جواز التقليد في أصول الدين ما يلي: "... بل نقول: يظهر من لفظ الكافر هو المقصِّر، فيكون القاصر خلاف الظاهر، وخلاف المتبادر من هذا اللفظ؛ فيكون محكوماً بعدم إرادته منه. ووجه هذا الظهور أن الكافر مشتق من الكفر، بمعنى الستر، وهو فعل اختياري صادر عن قصد وشعور، فلا بد أن يكون المراد من الكافر من يكون كفره كذلك، ولا يكون ذلك إلا كفر المقصِّر لا القاصر، فإن كفر القاصر انكفار لا كفر، نظير الفرق بين الاستتار والستر، والانجعال والجعل، والانكسار والكسر، فتدبَّر" ـ حديقة الأصول ـ تعليقة على القوانين ـ ج 2 ـ ص 170. ففي هذا فعل ثلاثي استبطن القصد والشعور، على خلاف الفعل المزيد الذي ليس كذلك.. الخلاصة: نستنتج من معنى الكفر والكافر في الكتاب والسنة واللغة، الظاهر في الجحود والجاحد، والشامل لمن حصل لديه علم بحقيَّة الإسلام وتمَّت الحجَّة عليه ثم أصرَّ على الكفر وعلى البراءة من الإسلام وإنكاره....؛ ونستنتج من ذلك كله أن غير المسلم عنوان يستوعب كل الأفراد غير المسلمين، القاصرين والمقصِّرين، أما عنوان الكفر فهو أخص مطلقاً من عنوان عدم الإسلام، ولا يشمل تمام غير المسلمين، بل يختص بالمقصِّرين منهم.. (المصدر: مقاربات في التجديد الفقهي ـ آية الله الشيخ يوسف الصانعي ـ  ص 202 ـ 207 ـ ترجمة الشيخ حيدر حب الله ـ مؤسسة الانتشار العربي ـ بيروت ـ لبنان)..