عاش زبَّالاً، ومات زبَّالاً (مزبولاً)، وجد مطروحاً في أحد شوارع الحي، مبجوج العينين، الدماء تخرج من منخريه، مدبَّغ الجلد، وما زالت الأخبار تتحدَّث عن كيفية موته، البعض قال مات بجلطة دماغية، لا، بسكتة قلبية، والبعض قال بصعقة كهربائية أثناء دخوله إلى بيت أحد الحجاج المسؤولين.
 


انظروا إلى قذارة الشوارع في الوطن والمدن والقرى، واعلموا إنه سيأتي يوم يُطالب فيه الذباب بحقوق المواطنين.

 


يا سادة البلاد والوطن، أنتم لا تعرفون عامل النظافة، بالتأكيد، لأنكم مشغولون بقضايا مصيرية، مشغولون بالقضاء على نظرية المؤامرة الكونية، معذورون، لأنكم لا تنظفوا ثقوب حماماتكم وبواليعها ومجاريها ومجروراتها، أنتم لا تعرفون زبَّال قصوركم ومقصوراتكم الذي يحمل أوساخكم وقذراتكم وأوساخ نسائكم وأبنائكم، ويرميها بعيداً عن أنوفكم، ولكنكم لا تدرون أين يرميها.

 

 

يا سادة البلاد والوطن، أنتم لا تقفون أمام بائع الفجل والعلكة، وبائع القداحات والبراغي في الشوارع، أنتم لا تقفون في طوابير هوام الأرض أمام الصيدليات والمستشفيات والأفران ومحطات الوقود، أنتم لا تبردون في الصقيع والبرد، لأنكم من منيٍّ وحليبٍ كامل الدسم.

 


يا سادة البلاد والعباد، أمركم غريب، شكلكم عجيب، تدعون أنكم آلهة، تقفون على الماء، تمسكون بالسماء، لكنكم نسيتم أنكم من نطفة بشر.

 

 

نعم، يا سادة، إنه عامل النظافة، بالتأكيد هو أقل منكم ثقافة، فهو لم يقرأ كتب المعرفة والحكمة والفلسفة، وعلم السفسطة والكلام، لم يقرأ كتب الأنبياء والأوصياء، بالتأكيد، لأنه زبَّال، لم يكن عضواً رفيعاً أو جسيماً في مجالس القوم وحكماء الأمة، ولم يحالفه الحظ أن يكون وزيراً أو نائباً في مجلس الأمة والشعب، مطرق الرأس بمطرقة سيد المجلس ومطأطئ، خوفاً من أن يقطعه سيف السلطان ويصبح فزَّاعة لعصافير الشوك.

 

 

بالتأكيد يا سادة، هو أقل منكم حسَّاً بالجمال وجنساً بالنساء، لأنه لم يهتم بمعارض الرسوم والرسم، ولا بتضاريس الأجساد والجسد.

 


إنه زبَّالٌ يا سادة، وعابرٌ في الشوارع والطرقات والرساتيق، والزواريب الضيقة، لا إسم له ولا عنوان، مجرد أقدامٍ لهوام، يمشي ولا يدري إلى أين، خياله يرسم سرابه على الشواطئ والجدران، مثل نخيل الليل.

 

 

بالتأكيد، هو لا يعرف شيئاً عن زوربا، أو ما يسمى بذاكرة الجسد، تنقصه رفاهية اللمس والهمس، ورفاهة الفن والرسم والموسيقى، ولكنه يا سادة، هو مثلكم تماماً، كائنٌ حيٌّ يتنفَّس، صدق الله العظيم، يملك حيزاً في أرض الوطن، تتشارك أنفاسه مع أنفاسكم في تدفئة الأجواء، ويزيد معكم في ارتفاع الرطوبة، ينام كما تنامون، ولكنه يستفيق باكراً، كي لا تفوته صلاتي الشفع والوتر، وقرآن الفجر، يأكل كما تأكلون، من حيث الشكل لا من حيث الأكل، يكتفي بسد جوعه من قشور الطلح، ويحلم كثيراً بأكل اللحم، ويحصل على المرق، يشرب كما تشربون، بالتأكيد مياه معكرة غير مفلترة، هو مثلكم يا سادة يا كرام، تماماً، بلا زيادة ونقصان، بإخراج وخروج ما يأكل، لأنَّ الذي يكون همُّه ما يأكل، فنهايته ما يخرج، هو مثلكم تماماً، يشارككم جنساً، ولكنه لا يعرف فنون النكاح.

 

 

عذراً يا سادة، إنَّ بعض الظن إثم، زبَّالٌ يحمل ظنوناً، فظنَّ أنَّ الأثواب لكم، وأنَّ أمثاله لا  يغطون إلاَّ عوراتهم حتى يتيحون لكم مُتع الشهوات والرغبات.

 

 

بالتأكيد، هو إنسانٌ له بعض الميزات، يحفظ بعضاً من آيات الله تعالى ـ بالعربي خوش آدمي ـ يواظب على الصلوات المفروضة، قلما تفوته صلاة الفجر، يقرأ الأدعية والأذكار، ويحاول أن يكون خاشعاً متصدِّعاً من خشية الله، لكنه يفشل دائماً، وبالأصل هو فاشل باستمرار، وجُلَّ اهتمامه بالقضايا الصغيرة، التي لا تهتمون بها ولا يهتم بها أحد.... ذات يوم سمع صوت جارته الحجة خديجة، فوجدها تبكي بفقدان دجاحة من دجاجاتها، فاستغرق بحثه لأكثر من ساعة وهو يبحث عنها، وأخيراً استطاع أن يعيدها لها، وماتت وهي تدعو له... لقد منَّ الله عليه ببنية جسدية قوية، استطاع ذات يوم أن يعيد سقف التنك لجاره الحج أبو علي حسين، الذي كان يغطي به سقف الغرفة التي أعدَّها لخيمة البندورة، وما زال يفتخر بهذا العمل ويشعر بالأجر والثواب. 

 

 

بالتأكيد، هو إنسان يملك نزعة سيئة، ذات يوم، أثناء خروجه لتنظيف الشارع، وجد كيساً فيه كيلو من اللحم الغنم، وهو طازج وصالح للأكل، رزقٌ ساقه الله إليه، ورغم ذلك عذَّبه ضميره، ولكن تذكر أنَّ الكيس ليس مسروقاً من حرز، فأولم عليه وليمة لبعض الجيران والأصدقاء، وكانت ليلته من ليالي الأنس والفرح. ومع ذلك فهو يرتكب إثماً أثناء العمل، يسترق بصره نحو فتاة جميلة تظهر محاسنها، لكنه يتذكر أهله فيقتل شهوته. ومن بعض آثامه وسيئاته، كان ينتظر رحيل المسؤول عن جماعة الزبَّالين كي يأخذ بعضاً من الوقت مع صديقه الملقَّب (حج بونحاس) ليمجَّا سيجارة، ويتحدثان عن الأوضاع المعيشية الصعبة وعن تأمين المازوت لتدفئة البيت من أجل الأولاد. 

 

 

عاش زبَّالاً، ومات زبَّالاً (مزبولاً)، وجد مطروحاً في أحد شوارع الحي، مبجوج العينين، الدماء تخرج من منخريه، مدبَّغ الجلد، وما زالت الأخبار تتحدَّث عن كيفية موته، البعض قال مات بجلطة دماغية، لا، بسكتة قلبية، والبعض قال بصعقة كهربائية أثناء دخوله إلى بيت أحد الحجاج المسؤولين في الحي، لا، بيت النائب الحج فليتان، وروى أحد الثقاة في القرية، أنه غرق في مجرور عند الريس في قصره، (نشلوه وطمطموا الخبر وقالوا موتة طبيعية) وهناك خبر آخر روي عن طريق ثقة، من أنه مات نتيجة روائح سامة لأبخرة المجارير قرب قصر الريس.

 

 

 تعارضت الأخبار وربما تتساقط لعدم إحراز الخبر اليقين، لكن النتيجة يقينية، وهي موت الزبال..

 


 بلاغات كاذبة، ومن يذيع أي خبر من هذه الأخبار لعدم صحتها لدى الأجهزة المختصة، سيلاحق بتهمة البلاغ الكاذب، وأخيراً تم طمره ودفنه، بلا حشد وحشود حاشدة، وبلا طنطنة وبهرجة، تفادياً لتخطي الرتب، وتحاشياً لتخطي المراتب والشرف، ومن شاء من المواطنين أن يأتي لقراءة الفاتحة على القبر أو لوضع إكليل من الزهور، فليذهب إلى أي مقبرة من مقابر هذا الوطن.