إحدى الصحف الألمانية في برلين سنة (1784) م نشرت تحت عنوان (ما هو التنوير) لكافة المثقفين...وردَّ على هذا التساؤل العديد والكثير من النخبة المثقفين ، ومن أبرز الردود للفيلسوف (إيمانويل كانط) الذي قال عبارته الشهيرة : " تجاسر على إستخدام عقلك ايها الإنسان ! أي تجاسر على كسر قيودك والتحرُّر من كل الأحكام المسبقة ذات الطبيعة الطائفية أو المذهبية أو الغيبية عموماً. تجاسر على كل التحرُّر من كاهنك وشيخك أو حتى من ربَّاك عليه أمك وأبوك إذا لزم الأمر...تجاسر لأول مرَّة في حياتك على أن تفكِّر في نفسك من دون وصاية أحد عليك..." إنَّ معنى التنوير كما فكَّكها الفلاسفة في كل العقائد الدينية لجميع الطوائف من دون إستثناء هو نزع القدسية عن الأشياء لكي تبدو على حقيقتها وينكشف أصل تاريخيتها ليتحرَّر الناس من هيمنيتها الرهيبة على العقول فلم يعد البابا مقدَّساً ولا المرجع ورجل الدين ووليّ الفقيه ولا المفتي والقاضي مقدَّساً معصوماً ، والغرابة من الذين مُنِحُوا جوازات مرور من السلطة السياسية بتعيينهم في مراكز الإفتاء فيظنون أنفسهم بأنَّ هذه الوظيفة تمنهحم قدسية فينبري البعض منهم ويخاطب الناس وأنا من موقع كوني مفتياً فيظن نفسه قدِّيساً فلم يعد اليوم في زمن العقل والأنوار والتنوير بأنَّ الإيمان والتسليم الأعمى وارداً ومقبولاً...ولهذا فإنَّ التنوير هو في الواقع عملية ذات صعوبة وليس من السهل أن يتخلَّى المرء عن هذه الامور التي ليس لها أساس عقلي بل مبتنية على هذه الأزعومة التي وصلت عن طريق الوراثة الموهومة...فالتنوير هو التحرُّر والحرية الفكرية والسياسية للتخلص من الرؤية القديمة الموروثة ليحلَّ محلَّها الرؤية المنطقية والعلمية في المجتمع المدني...هذا هو النمط التنويري الذي ينعكس آثاره على سلوك الإنسان فيحرِّره من حبائل التقاليد الظالمة والأعراف الزائفة والسياسات الخدَّاعة بعد أن يحرِّر باطنه من الرذائل والدوافع الشريرة ويحرِّره من الشهوات والأهواء والأنانيات فيعمل على تحرير ظاهر الإنسان وكيانه السياسي والأخلاقي والإجتماعي من قوى الشر والإنحراف..وهذا المعنى فعلاً نراه متجسِّداً في بعض رجال الدين وهم قلَّة قليلة من يتحرَّك بهذا الإتجاه في عملية التنوير والتليغ الديني لإثارة الإيمان القلبي المرتبط بالله في واقع الناس من أجل تحويل التعاليم الدينية إلى واقع حي في النفوس ويعمل على تجسيد هذه التعاليم في سلوكياته لا في أقواله وظاهره فقط...والأغلب منهم يهتم بدين الهوية الذي لا يمكن أن يحرِّر باطن الإنسان وينتقل به إلى عملية التنوير ولا يتمكن من تطهير قلبه من شوائب الأنانية والغرائزية وعوامل الشر والنفاق وحب الدنيا والنساء..هذا هو النظام الفكري الذي يمسخ شخصية الإنسان ويستولي على عقله وقلبه ويجعله مسيَّراً في كل شؤونه فلا معنى للتنوير في قاموس هذا الصنف من المتدينين في الهوية واللقب والمنصب والشعار فينطلقون بالدفاع عن ثقافتهم من أجل إرضاء أسيادهم من موقع التعنُّت والتهكُّم والإستخفاف وتحريف الحقائق الشاخصة من أجل التستُّر على تشوهات الأنا والبقاء في عتمة الذات......الشيخ عباس حايك