إنها الغوغاء التي وصفها الإمام علي (ع) التي يوحي بعضها إلى بعض زخرف القول غروراً، إنها عدوى بلا أي رادع.. وما نراه في مجتمعنا وبلدنا لا نعرف من يقود من.؟ هل الرئيس يقود الجماهير،أم الجماهير تقوده؟. (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكَّروا ما بصاحبكم من جِنَّة ـ سبأ ـ 46). إنه القرآن الكريم الذي يحثُّ على أن يتم التفكر والتعقل والتدبر في الإيمان بشكل آحادي أو فردي، وعلى الأكثر وإن كان لا بد يكون بشكل ثنائي، ولا يتعدى إلى الكثرة والأكثرية ولا إلى المجموعة والجهمور والجماهير، فتتحكَّم الغرائز وتسيطر العواطف ويصبح التحكُّم فيها بواسطة الأوهام والسخافات والأساطير والخُرافات.
 

حاول الطبيب والفيلسوف الفرنسي "غوستاف لوبون" تعريف الجماهير أو ما يسمى الجمهور، في كتابه "سيكولوجية الجماهير" من أنَّ كلمة الجمهور تعني في معناها العادي تجمعاً لمجموعة لا على التعيين من الأفراد، أيَّاً تكن هويَّتهم القوميَّة أو مهنتهم أو جنسيتهم، وأيَّاً تكن المصادفة التي جمعتهم..

 


  يقودنا هذا، إلى أنَّ كلمة الجماهير لا تعني بالضرورة (الكثرة) في القرآن الكريم، لأنه لو نظرنا إلى كتاب الله تعالى، نرى عشرات الآيات تذم الكثرة وتمدح القلة، على سبيل المثال لا الحصر (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلُّوك.. الأنعام ـ 116) وقوله تعالى:( أم تحسب أنَّ أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلاَّ كالأنعام بل هو أضلُّ سبيلاً... الفرقان ـ 44). وأما القلة، أيضاً نرى عشرات الآيات تمدحها، (وقليل من عبادي الشكور. سبأ ـ 13). فتكون القلَّة في القرآن الكريم مقابل الكثرة، وليست بمعنى "الأقلية" لأنَّ مصطلح الأقلية، مقابل الأكثرية، وهما يدلان على معنى عددي ليس إلاَّ، ومنها القليل، والأقل. لأن مصطلح الأقلية كما يقولون، هو شائع في المجالات العلمية والإعلامية والسياسية، ولم يتم استخدام هذا الاشتقاق بمفهومه المعاصر إلاَّ في القرن العشرين، حيث لم يرد له أي ذكر في مصادر اللغة والتراث، وقد ظهر هذا المصطلح كتعبير سياسي يُعبَّر عن تكوين عضوي (أصغر) يختلف عن المجتمع الحاضن (الأكبر) عرقياً أو دينياً أو طائفياً.

 


  يبقى أنَّ كلمة (قليل) في القرآن تأتي على أكثر من وجه ومعنى، منها: القليل يعني اليسير،(ليشتروا به ثمناً قليلاً ـ البقرة ـ 79). تأتي بمعنى الرياء والسمعة،(ولا يأتون البأس إلاَّ قليلاً ـ النساء ـ 142). تأتي بمعنى لا شيء،(قليلاً ما يشكرون ـ الأعراف ـ 10). تأتي بمعنى القليل في الكثير،(إن هؤلاء لشرذمة قليلون ـ الشعراء ـ 54). تأتي بمعنى العدد الكبير،(فشربوا منه إلاَّ قليل منهم ـ البقرة ـ 249). ومنها بمعنى الأنفس الكثيرة،(وما آمن معه إلاَّ قليل ـ هود ـ 40).

 

إقرأ أيضا : بركات الفوضى الخلاَّقة...!

 

 

 

في تراثنا العربي والإسلامي نرى مصطلح (الجماهير) يُعبَّر عنه بتعابير متعددة، مثلاً: عوام ، غوغاء، سوقة، سفهاء، أو الطّغام والحشو، أو السواد الأعظم. إذاً، تعددت التسميات والمواقف بين مدحٍ وذم، حول الجماهير، وتعددت الدراسات حول غاية الجماهير وأهدافها. مثلاً ورد عن الإمام علي (ع) أنه قال:(والزموا السواد الأعظم، فإن يد الله مع الجماعة)، وفي شرح "نهج البلاغة" روي عنه أنه قال:( في صفة الغوغاء: هم الذين إذا اجتمعوا غلبوا وإن تفرَّقوا لم يُعوفوا)، وقيل عنه (ع):( هم الذين إذا اجتمعوا ضرُّوا وإذا تفرَّقوا نفعوا، فقيل قد علمنا مضرَّة اجتماعهم، فما منفعة افتراقهم؟ فقال: يرجع أهل المهن إلى مهنهم فينتفع الناس بهم، كرجوع البنَّاء إلى بنائه والنسَّاج إلى منسجه والخبَّاز إلى مخبزه). وأيضاً ما ورد ونسب إلى الإمام السجَّاد أنه قال:(واكمل لي بدوام الطاعة ولزوم الجماعة، ورفض أهل البدع، ومستعمل الرأي المخترع). إلاَّ أننا نجد عند غوستاف لوبون تفريقاً بين أنواع تلك الجماهير، هناك جماهير مجرمة بلا شك، وجماهير فاضلة، وجماهير بطلة، ويرى أنَّ الجمهور هو دائماً أدنى مرتبة من الإنسان المفرد فيما يخص الناحية الفكرية والعقلية. هناك من درس الجماهير ليوجهها، وهناك من عرف كيف يتحكَّم فيها ويرسم لها طرق إخضاعها للسيطرة، وهناك من درسها ليفهمها ويحاول تلمَّس تأثيرها على الأحداث، وهناك من يزج بها في الهاوية والجحيم من أجل مصالحه وغاياته، تحت مقولة: لا بد للقائد من مفتٍ أو فقيه يرشده، ومن سفيهٍ يعضده. أو مقولة: لا تسبوا الغوغاء، فإنهم يطفئون الحريق وينقذون الغريق.

 


  في كل الأحوال تعددت الأهداف وبقيت الجماهير مغناطيساً يجلب الباحثين والدارسين ويشغل القادة.  إن الجماهير تحرق اليوم ما عبدته بالأمس، وتغيِّر أفكارها كما تُغيِّر قمصانها.

 

 

 وهذا ما يجده كل فرد عاقل ومراقب، على مر التاريخ وإلى يومنا هذا، في عالمنا العربي والإسلامي، وخصوصاً في بلدنا، ونلتمس المعاذير للأبلسة، وللأسلمة، وبسبب الغوغائية واللاعقلية والحق المطلق واليقين الجارف، لا نجد من أي حرج أو غضاضة أن تنتقل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار من قبل أن يرتد إليك الطرف، ومن دون خجل لكل المواقف السابقة، وتشدك العصبية والحماسة التي تغشي العيون وتغطي الفكر والعقل، وتنتقل ما بين الألوان والقمصان. 

 

 

إنها الغوغاء التي وصفها الإمام علي (ع) التي يوحي بعضها إلى بعض زخرف القول غروراً، إنها عدوى بلا أي رادع.. وما نراه في مجتمعنا وبلدنا لا نعرف من يقود من.؟ هل الرئيس يقود الجماهير،أم الجماهير تقوده؟. (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكَّروا ما بصاحبكم من جِنَّة ـ سبأ ـ 46). إنه القرآن الكريم الذي يحثُّ على أن يتم التفكر والتعقل والتدبر في الإيمان بشكل آحادي أو فردي، وعلى الأكثر وإن كان لا بد يكون بشكل ثنائي، ولا يتعدى إلى الكثرة والأكثرية ولا إلى المجموعة والجهمور والجماهير، فتتحكَّم الغرائز وتسيطر العواطف ويصبح التحكُّم فيها بواسطة الأوهام والسخافات والأساطير والخُرافات.