إنَّ المؤسسة الدينية قد اتخمت بكل تلابيبها وأحزابها، ولم تعد بحاجة إلى العمائم،فهناك زحمة سيرٍ مشيخيٍ نحو الوظيفة والمنصب والإفتاء والتبليغ، وقد منَّ الله عليهم بالرزق في الدنيا وبالجنة في الآخرة.
 

كان شاباً يعمل في حقل القرية مع أبيه بزراعة التبغ والدخان، ويرى في أبيه المثل الأعلى والنموذج الأسمى، رغم التعب والفقر وشمع الأصابع، كان أبوه عفيف النفس ومتسامحاً مبتسماً دائماً مع مرضه وضعف صحته، لم يكمل الشاب التعليم الأكاديمي، ظناً منه بأنَّ اشرف العلوم هي علوم الشريعة والدين في الحوزات العلمية، بالتأكيد كان أبوه متفقهاً بلا حوزة، يمتلك فطرةً صافية محمولة بقدرة قوية على الفهم والتقاط المعقولات الدينية والعقائدية وتمييز الحُسن من القُبح، ولم يكن أستاذاً حوزوياً لكنه قرأ بلغة "الضاد" روايات "الكليني والصدوق والطوسي" من دون الحاجة لدخول الحوزة، لكنَّ الشاب إستأذن من أبيه ليلتحق بطلبة العلوم في حوزة النجف الأشرف وسراديب مراجع الدين، وغادر إلى تلك البقعة المباركة لينحت في تجاويف التاريخ، وينهل من العلم ما يقرِّبه إلى الله من تعاليم وأدعية لفك السحر والشعوذة، ليهدي الأمة الضالة إلى جادة الصواب، وتنقل ما بين النجف الأشرف وقم المقدسة، طيلة عشرين عاماً، بعد أن حاز على شهادة المراجع العظام من تواكيل وإجازات بقبض الأخماس والزكوات وصرفها في مواردها،وحاملاً رسالة الله لهداية خلقه، وعاد شيخاً مُعمَّماً بعمةٍ وجُبَّةٍ وعباءةٍ إلى قريته مبشِّراً ونذيراً من حبائل الدنيا وشياطينها، لأنَّ الدنيا تغرُّ وتستهوي ضعاف النفوس، والشياطين يوحون إلى أوليائهم زخرف القول غروراً، مستبشراً ببعيه الذي بايعه، وعيشه الذي يعتاشه من الخمس، لأنه لا يُتقنُ علماً أكاديماً ولا يتقن لغةً غير لغة الرواية، ولا يمتهن تجارةً غير تجارةٍ الدين بالوعظ والموعظة، لأنَّ الله دلَّه على تجارةٍ تنجيه من عذابٍ أليم، وبرواياتٍ دلَّته على أنَّ كل الناس تسعى وراء رزقها، إلاَّ طالب العلم ـ أي علم الدين ـ  فإن الرزق يسعى إليه، هكذا علَّمه أستاذ الخمس نقلاً عن علماء النصوص، لكن الشيخ المُعمَّم لم يكن مُحزَّباً ولا ينتمي إلى أحزاب الهدى والتقوى، ولا إلى نقابة المشيخة ومؤسستها، ولم يكن مولوداً من صلب المرجعية الرشيدة، ولا من حليب كامل الدسم، لينتسب إلى الشجرة المباركة،  حتى يكون محظوظاً برضى الربِّ والسلطان، ليحصل على وظيفة تقيه شرَّ الدواب، وقريته إمتلأت بطلبة العلوم الدينية وبالايات والسور، وغطَّت اللحى سماء سطوح القرية، فأصبح بلا مسجد ولا إمام يؤم الأنام، ولا خمساً يستحق لأنه لا ينتمي إلى الجسم التبليغي السماوي، ولم يمُنَّ عليه الخالق بحنجرة ليقرأ قرآن الله على المقابر والأموات بصوت يبكي القلوب، ولم يحصل على قراءة العزاء ليدمي العيون بالبكاء والتباكي، لكي يحصل على نعمة الدارين... 

قصدني بعد أن سُدَّت بوجهه سُبُل العيش، طالباً مني، هل من يشتري عمامتي وجبتي وعباءتي..؟ فقلت له: إنَّ المؤسسة الدينية قد اتخمت بكل تلابيبها وأحزابها، ولم تعد بحاجة إلى العمائم،فهناك زحمة سيرٍ مشيخيٍ نحو الوظيفة والمنصب والإفتاء والتبليغ، وقد منَّ الله عليهم بالرزق في الدنيا وبالجنة في الآخرة.

 وأما أنت يا صديقي فرزقك في السماء، وفي الآخرة، فإن أردت العجلة بالرزق الحزبي والوظيفي، فالتحق بالركب، وإلاَّ فالتحف بدثار نبيك محمد (ص) وقماشه المرقع ، وثوبه العتيق، وأقرض بطنك بقرص الشعير، قرص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) الذي اكتفى من دنياهم بقرصيه وطمريه، وهو القائل: "إنَّ الله فرض على أئمة العدل أن يُقدِّروا أنفسهم بضعفة الناس" ... فخرج صديقي الشيخ المُعمَّم، ولم أره منذ ذلك اليوم المشؤوم، ولا أملك له سوى الدعاء، لعلَّ الله يُحدث بعد ذلك أمراً.