يقدِّم لنا التاريخ من نماذج وتجارب لأفراد قد ملكوا العلم والحكمة،وأغنوا الحياة بأفكارهم العلمية والفلسفية، وفي الوقت عينه وقعوا في فخاخ الحاقدين عليهم بطريقة سهلة وغريبة، بل يساعدون من دون إرادة،وهي مساعدة أساسية ورئيسية على إيجاد الأسباب التي أودت بهم إلى كارثة ونهاية مؤلمة،ولم يسلم منها إلاَّ القليل من الذين جمعوا إلى عظمتهم فهماً واقعياً ودقيقاً لمعرفتهم بالنفس البشرية وما فيها من منعطفات ضيقة ودهاليز مظلمة،وما تحمل هذه النفوس من الحقد والكذب والضغينة وفن الخداع بأثواب الدين والسياسة والمصالح النفعية.. الكثير منهم وقعوا فريسة هذه النفوس الشيطانية،وهذا ما يصح بتسميته "ضعف العظماء" والضعف هذا يؤدي إلى عدم رؤية الآخرين رؤية واضحة،أوقعتهم بالعجز عن تصور الغرائز الإنفعالية الخفية والسوداء المظلمة،وعجزوا عن فهمها وإدراكها،ولم يبادروا إلى علاجها بل كانوا عكس ذلك تماماً من خلال مواقفهم التي تمتلئ بالطيبة والشفافية دفاعاً عن رؤيتهم وأفكارهم من أجل الخير الذي يطلبونه للناس..وعلى سبيل المثال لا الحصر ذاك الفيلسوف "سقراط" أبو الفلسفة الإنسانية بكل معنى الكلمة نراه قد مات محكوماً عليه بالإعدام ،والذي قدَّمه للمحاكمة هو الرجل الأثيني الذي كان من وجهاء وأغنياء "أثينا" الذي زاد بسطةً في الجسم وقلة في العقل والعلم، نراه قد ضاق من علم سقراط وشهرته وحبه للناس،وجعل الرجل الأثيني لا شيئ في حياة أثينا،ولم تنفعه قوته ومملكته وعبيده وحزبه وثروته،فكان "سقراط" على فقره وبساطة حياته أقرب إلى قلوب الناس، وكان الظل الذي تستريح إليه النفوس كلما أصابها التعب والضيق، وأرهقتها الحيرة والظلمة والغشاوة، فهذا العظيم "سقراط" لم يفهم طبيعة الحقد الذي كان يضمره الرجل الأثيني وإتهمه بأنه "خارج على دين أثينا وهو مفسدٌ وفاسدٌ لشبابها وفتياتها" فلم يدرك "سقراط" هذه التهمة التي تخفي وراء ستارها الخوف الذي يحمله ذاك الرجل الأثيني بماله وعبيده..والملفت ذكره أنَّ القاضي الذي حاكمه هو نفس الرجل الغني القوي الأثيني،وهذا مما لم يدركه "سقراط" بأن الرجل الأثيني هو "الخصم والحكم" وهكذا إنتهت حياة "سقراط" بتهمةٍ باطلةٍ،وشرب السُّم ومات..إنتهت حياة الفيلسوف لأنه كان صادقاً جميلاً، كما قال عنه تلميذه وحبيبه "أفلاطون" (إنني لن أتردَّد في تلقيبه بأعدل رجال عصره...) إنه سقراط هو محنة من محن الإمتياز..