وها أنا المُتسوِّلُ على باب محراب الشيخ والسَّاكن في زوايا الزَّواريب الضيِّقة أبيع حصَّتي في الوطن بتأشيرة دخول إلى أيِّ بلد كافر وأوقِّع في أسفل أم في أعلى رأس الإستمارة من عقد البيع بأنِّي لن أعود مُجدَّداً إلى هذه الأرض المباركة حتى وإن مات لي ما تبقَّى من والدين وأولاد وأقارب وأصدقاء وأصحاب..ولن أطالب بأيِّ حقٍ من حقوق العودة، لقد بعت السَّفارات بيعةً لا رجعة عنها حتى وإن متُّ فليوزَّع جسدي المسافر إلى من يحتاجه من الجديرين بالحياة...إذاً تُعرض نفسك ووطنك للبيع، بل وما فيهما من تواريخ وأقاصيص وفتوحات وبطولات وإنتصارات، حتى الأوسمة المعلَّقة على صدر التراب والتي جمعتها في كيس السوق ولم يشترها منّي أحدٌ من تجَّار الخردة.. إذاً تُسقط نفسك في بئرٍ أمَّارةٍ بالسوء بعد أن طهَّرتك الشهادة وجعلت منك شهيداً يُروِّدُ إسمه جيل الثورة...هل يحتاج الميِّت إلى إسمٍ أو نشيدٍ حزبي، وهل يُخلَّد غِنَاه بعد الموت فقرُهُ المُدقع في الحياة ، وكيف يعيش البطل فقيراً ويموت غنيَّاً وله أرصدةٌ وأوسمةٌ في بنوك الأحزاب..عذراً إن قايضتُ نفسي بتأشيرة دخول إلى جنَّةٍ من صنع البشر لا من صنع الله تعالى،وتركتُ الوصايا والإنتصارات لكلِّ من يرغب بشراء حصَّتي في أسواقنا العربيَّة بتجارة التوابيت وما يزدهر فيها من نعوشٍ ومقابر، وأنا ما زلتُ أشرب حليب الثورة ولكن من ثدي الدنيا تحصيلاً لعيشٍ كريم وصون الوجه لتنتعش الحياة وينتشرُ فيها عدالة من صنع رجالٍ لا تلهيهم تجارةٌ أو بيعٌ عن ذكر الله والناس..أولسنا أبناء هجرة،ألم يهاجر النبي محمد(ص) من مكة إلى المدينة سعياً وراء جنَّة الفقراء بعد أن ترك دهاقنة التُجَّار من أهل الأصنام ولحى القبائل والعشائر، ألم تعيد الهجرة وطناً كانت تُقطَّع أوصاله ذئاب الصحراء..حسبي من المهاجرين رحلة وترحال إلى ملكٍ عادلٍ في مِصرٍ بعيدٍ لأنعم بفيء العدل وظل الإستقرار لأستشعر إنسانية فقدتها منذ قيام الإستبداد من الخلافة وحتى الدولة الوطنية..ربما أضغاث أحلام تجود في مخيلتي وأنا محاط بأشياء وأسماء تُعيد شهادتي التي أكتبها على ورقٍ من دفاتر البؤس والشقاء والتعب، إنها الغربة التي تلازمني منذ أن قرَّرت المكوث في وطنٍ بلا هويَّة وبيئة تتمسَّك بسمات من هويَّة ضائعة وتترك الوطن لغربةٍ من صنع المحتلّ، هنا ألتمسُ العذر من مساحة الحبر لعلِّي أجدُ في بُرَكِها دولاب أو قارب نجاة حتى لا تغرقني الكثافات في يَمٍّ سحيقٍ أو بئرٍ مشيَّدة، فكلَّما إقترب صوت الرصاص العربي العربي من أذُني عزمتُ على الرحيل والسفر أكثر إلى مناطق من الصحو في العقل والقلب سبيلاً للخلاص من دائرة النار التي تحاصرنا من كلِّ حدبٍ وصوب.