قال الحلاَّج:" إلهي إنَّك تتودَّدُ إلى من يؤذيك،فكيف لا تتودَّدُ إلى من يُؤذى فيك"..وفي أحد جوامع بغداد قال:"إقتلوني...تؤجروا وأستريح"..الحلاَّج هو أحد أبرز أقطاب الدعوة إلى التصوُّف،لأن التصوُّف بدأ بتجارب فردية متفرقة،وسرعان ما انتشر بشكل حركات وجماعات تهتم بأمور الفلسفة والدِّين وبالأمور السياسية وعلاقة ذلك بالمجتمع من ناحية،وبالسلطة من ناحية أخرى، وما ترجمه الحلاَّج من التأكيد على دور الإنسان في حريته،وأنه الكائن الوحيد الذي صاغه الله على مثاله،وهو نفحة من روح الله،وهو على صلة دائمة مع الله،فما هو الداعي لأن يحكم (باسم الله) من قبل رجالٍ نصَّبوا أنفسهم أولياءه على الأرض..من هنا بدأت السلطة العباسية تفسِّر كلامه على أنه دعوة صريحة لتجاوز نفوذها وهيمنتها وسلطتها،ومما أثار ضغينة فقهاء السلطة وقضاتها ووزرائها ومفتوها،واعتبروها تهديداً لعرش الخلافة الإلهية.. لأنهم كانوا يرون في أتباع الحلاَّج وشعبيته الواسعة، دلالات إجتماعية وثقافية وفكرية ثورية تهدِّد كيانها ووجودها،كما تقول المصادر بأنه كانت تربط الحلاَّج بقادة بعض الحركات الثورية السرَّية بزعيم القرامطة"أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن القرمطي"..غاية القول من قضية الحلاَّج وكيفية مقتله بتلك الوحشية والبشاعة والعنف، يمثِّل الوجه الحقيقي للسلطة في محاربة وقتل الرأي الآخروالمخالف لها ولمريديها، فكرياً وثقافياً بطبيعة الصراع السياسي والحزبي أيام خلافة بني العباس،مما وضع الحلاَّج في صلب الصراع،لأنه كان يندِّد جهاراً من موقعه الخطابي بأسباب الفساد المستشري في كل دوائر الدولة العباسية..حينها ألقي القبض عليه من خلال جواسيس الدولة ووضع في السجن على يد الوزير"حامد بن العباس" إلى أن تمَّت محاكمته التي أعدَّها هذا الوزير وحدَّد له مجلساً كما تقول المصادر في الحادي والعشرين من ذي القعدة يوم السبت من عام (309)للهجرة فحضرالقاضي(أبو عمر محمد بن يوسف) وكان قرار قتله نافذاً، نعم ضُرب ألف سوط ومن ثم قطعت يداه ورجلاه وصُلب على جذعٍ وأحرقت جثته، وألقي رمادها في نهر دجلة ومنع شراء كتبه وحرّموا بيعها..كل هذه التفاصيل والمشاهد الدموية البشعة تظهر لنا صورة لفكر السلطة وجبروتها وإستبدادها المشرعنة من قبل الفقهاء والقضاة داخل السلطة، ومن ورائها إخراس الأصوات المعارضة وإرهاب كل صوت منادياً بالإصلاح والحرية، وخصوصاً هؤلاء العاملين بمبدأ النظر العقلي في نصوص الدين،والساعين إلى إبطال مداليل ومفعول المقولة المتوارثة بأنَّ الخليفة هو ظل الله في الأرض وهو الحاكم بأمره.....من هنا عمدت هذه السلطة إلى إظهار كيفية مقتل الحلاَّج وغيره وجعلوا من مقتله مثالاً لكل من يحذو حذوه، وبقي الفكر في العالمين الإسلامي والعربي في سباتٍ مريرٍ ومريضٍ، وهي مشاهد مروعة لذبح الفكر والمعرفة ،وليس مستهجناً أن يبتعد الكثير من الناس عن الفكر التجديدي كأمثال محي الدين بن عربي والسهرودي والحلاَّج، وغيرهم ممن دفعوا أثماناً باهظة في سبيل أعظم قيمة وهبها الله وهي حرية الفكر والمعتقد..