يُروى أنَّ النبي محمد (ص) كان يتمشَّى هو وأصحابه في سوقٍ من أسواق مكة،فأوقفته إمرأة وسلَّمت عليه! وقف النبي(ص) معها ويحدِّثها حديثاً مطوَّلاً،وأصحابه ينظرون إليه نظرة الجاهلية،وعندما أنهى النبي(ص) الحديث معها ومضت المرأة في طريقها،فسأله أصحابه؟من هذه المرأة التي أوقفتك في السوق وتحدثت معها وكرَّمتها وإنصرفت عن أصحابك!

فقال لهم الصادق الصدوق(ص):هذه المرأة كانت تأتينا أيام خديجة(ع)،أي أيام المحنة والأزمة عندما حُربتُ ولُعنتُ ورُشقتُ بأحجار الجاهلية وعُبَّاد الأصنام،ولم تتخلَّ عنَّا ولم تترك زيارتنا رغم الضغوط التي كانت تحيط بها جرَّاء زيارة خديجة(ع)، لذا وقفتُ معها وأكرمتها في الحديث عنها وعن حالها،وبأننا لا نترك من يقف معنا في الصعوبات والمُلمَّات، وهذا ديدن المخلصين الأوفياء والشرفاء،لأن الإنسان يُعرف ويُكشف عن معدنه وجوهره في الظروف الصعبة،لذا فإن الذين وقفوا مع النبوة وإلى جانب الرسالة قبل الفتح،هم أعظم شأناً ورتبةً ومرتبةً عند الله تعالى وعند التاريخ،من الذين وقفوا إلى جانب الدِّين بعد الفتح..

شتَّان ما بين الضعف والقوة، في مرحلة الضعف قلَّةٌ هم الأصدقاء والأوفياء والذين يصبرون على البلاء ممن هم جاهزون للتضحية والشهادة في سبيل الله، وأما في مرحلة القوة فالناس أفواجٌ أفواجٌ،لأنه لا مجال للشهادة والإستشهاد،هم يستفيدون من نِعَم القوة ومن بركاتها ومن سطوتها وسلطنتها، لذا كَبُرَ المسلمون عدداً وعدةً بعد فتح مكة،أي بعد النصر الذي حقَّقه قِلَّةٌ من الذين صبروا مع رسول الله (ص) في معاناته وهجرته..إنَّ هذه الدلالة لواضحة في واقعنا اليوم،إذ نرى الذين وقفوا ضدَّ الدِّين في الأيام التي عزَّ فيها الناصرون له، نجدهم الآن يتصدَّرون واجهات الأحزاب الدينية، لأنهم لا يُقارُّوا على كظَّة ظالم ولا سغب مظلوم،بل إلتفُّوا من حيثُ تُؤكلُ الأكتاف، ليبنوا قصورهم وطغيانهم على حساب الناس من المحرومين والمستضعفين،الذين هم من دفعوا أثمان الدِّين غاليةً جدَّاً خلال الإحتلالين الداخلي والخارجي..

أليست هذه تجربة السيد موسى الصدر في لبنان؟ عندما وقف في مدينة صور وقال:"ألا من ناصرٍ ينصرني" وعندما تحوَّل غياب الإمام الصدر إلى قوَّةٍ وجدنا الذين لم ينصروه ولم يتجاوبوا مع ندائه يدخلون أفواجاً وأمواجاً في بحر الطائفة، وهذا هو حال المقاومة التي بدأناها كقلِّةٍ قليلةٍ مُدانةٍ من أكثريةٍ طائفية ولبنانية، وبعد أن إشتدَّ زند المقاوم وحرَّر الأرض من الإحتلال الإسرائيلي، وجدنا أنَّ من لايؤمن بالمقاومة ومشروعها، يتصدَّر هو في مقدمة المدافعين عنها ويستثمر في طريقها ما يُغذِّي ثرواته ومصالحه..إنَّ رسول الله(ص) ومن خلال الرواية المذكورة،علَّمنا إنَّ الصادقين الأوفياء ،يُمتحن صدقهم ووفائهم في الأيام الصعبة لا في الأيام السهلة، لهذا ما نراه اليوم هو مجرَّد زبدٍ جُفاء،وما ينفع الناس فيمكثُ في الأرض.