عندما ترى أديباً وعالماً وشاعراً وفيلسوفاً وفقيهاً ومرشداً وهادياً في قومه وأمته ووطنه ومجتمعه ، وينقسم الناس في أمره أو النظر والتقدير في عظمته ومنزلته ، واتسعت رقعة الخلاف والإختلاف فيه ، وفيما بينهم في شأنه ومرتبته ورتبته وعلوِّ قدره ومكانته.. فافتتن بحبِّه قومٌ حتى يرفعه رفعةً عظيمة في مصافِّ الأولياء.. ومن يبغضه حتى يضعه منزلة الشياطين والأبالسة..فاعلم بأنَّ هذا له نصيب كبير من المكانة والعظمة والرفعة في حياته ، فالذي يتخطَّى المنصب والجاه والمال والسلطة مع كونه عالماً وفقيهاً وأديباً يكون قوَّة روحية غير مكتسبة ومصطنعة ومأخوذة ، فإنه يملك عقلاً وروحاً وتفكيراً غير مطبوع على غرار الكثير من الأدباء والعلماء والفقهاء الذين استهوتهم المطامع والمناصب وكبَّلوا عقولهم وأقلامهم وألسنتهم تحت خدمة الرئيس والزعيم والقائد السياسي وتحت وطأة الأحزاب بحثاً منهم عن مخبأ أو ملجأ ، أو رضى أو بالأقل السكوت عنهم وبغض الطرف عنهم ...بينما الذي أصبح لا ينظر إلى شيء من تلك الأشياء ولا يمشي في طريق غير الطريق الذي مهَّدها بيده لنفسه ، ولا يجعل لعقلٍ من العقول مهما علا شأنها سلطاناً ووليَّاً عليه في الرأي والفكر، أو مبايعة لرجل غير معصوم ، أو مشايعة ومبايعة لحزبٍ أو مذهبٍ فيقع في نفوس مبغضيه وحاسديه ، والمتمردين على علمه وعبقريته ونبوغه ، فيحاربوه ويحاولون استيلاب تلك الأفكار والرؤى التي قد تجعل للناس منفذاً في حياتهم وأمناً وإستقراراً..ومع ذلك يبقى حكيماً وعظيماً ونزيهاً وفقيهاً يبتعد كل البُعد عن البهرجة ، ويلبس حكمته وعلمه وفقهه ثوباً من دِعة الأرض التي تُولِّد كل شيء بهدوء وسكينة ، وهؤلاء لا يسمعون صوت الحكمة والسكينة بل يسمعون قوقأة الدجاجة إن هي وضعت بيضةً...كما نرى من أحبَّ علياً (ع) حبَّاً حتى كفروا بحبِّه ، وأبغضه آخر حتى كفروا في بغضه ، وأيضاً في صحابة رسول الله (ص) والخلفاء فمنهم من أنكر صحبتهم ومنهم من أحبَّ صحبتهم ،حتى كفروا بالصحبة وحبَّها...وهذه سيرة العظماء في التاريخ من محي الدين العربي الذي عاش بين الناس وليّ من أولياء الله ، وشيطان من شياطين الجن والشيوخ الملحدين..وابن رشد بين شيخ الإسلام وشيخ الكفر ، والمتنبِّي تارةً سيد البلغاء والشعراء وأخرى من أكبر المدَّعين والمُتكلِّفين ، وسقراط وافلاطون ونابليون وغيرهم بين من رفعهم إلى رتبة الأنبياء وبين من وضعهم في طريق الحمقى والممرورين... ولوثر ، ونيتشه ، وتولستوي ، وغيرهم من الذين لاقوا من الناس بين محبٍّ وبين مبغضٍ حتى بعد مماتهم...وما زالت الأحزاب السياسية والدينية والناس المبهرجة تنقسم حول جمال الدين الأفغاني ، ومحمد عبده ، ومحمد أركون ، ونصر حامد بوزيد ، والصادق النيهوم ، وموسى الصدر ، ومحمد مهدي شمس الدين ، ومحمد حسين فضل الله ، وعلي الأمين ، وهاني فحص ، ومحمد حسن الأمين ، وغيرهم الكثير من العلماء والمفكرين بين ملائكة وبين شياطين.... فلا معنى للحياة والوجود أن يكون المرء من مهده إلى لحده لا تراه عينٌ ، ولا تسمع به أُذُنٌ حتى تكون نهايته كما الهوام والحشرات في باطن الأرض، إنما غاية المرء أن يقرع الأسماع ويجذب الأنظار ويحرِّك أوتار القلوب ويستشيد الألسن الصامتة والأقلام الساكتة والعقول الراكدة ويُحرِّك الناس نحو حقوقهم وعدم إستعبادهم من الأحزاب السياسية والدينية..نعم هم عظماء وأدباء وعلماء وهم أطول الناس أعماراً وإن قصرت حياتهم ، وأعظم حظاً في الوجود وإن قلَّت على ظهر الأرض أيامهم...رحم الله الماضين وحفظ الله الباقين..