إنَّ كل فضيلة يسنّها الشرع الجَمَاعي إنما تكون بمثابة المسؤولية التي تطال كل فرد في المجتمع ، وبالتالي تكون مسؤولية جَماعية من أجل بناء الدولة وبناء الفرد نحو الفضيلة والتكامل والسعادة التي تحفظ حقوق وكرامة الإنسان من أجل النهوض نحو الأفضل والأكمل...وأما في الموروث التاريخي تراها بعكس ذلك ، فتحصر المسؤولية في يد فردٍ واحدٍ قد يقوم بها أو لا يقوم بها من دون أن يُغيِّر ذلك في الواقع شيئاً..لماذا ؟ لأنَّ الواقع تحدِّده تلك الثقافة الموروثة والتي تُهيمن على عقول الناس ، وبالتالي ليس بمقدورهم تشخيص المصلحة من المفسدة....هذا هو الفارق التاريخي الناشئ من كثرة الروايات والأخبار الآتية من كل حدبٍ وصوبٍ ،ولذلك شهد التاريخ الإسلامي حراكاً تمثَّل في إتجاهين : الأول يدعو إلى إلغاء تلك الثقافة  ولو عن طريق القوَّة التي قامت به ثورة القرامطة..والثاني : يدعو إلى تحريرها من سيطرة الفقيه ، وهذا الإتجاه – على ذمة التاريخ - إشتهر به "الحسين بن منصور الحلاَّج " وكأنها محاولة لإلغاء مسؤولية الفقهاء عن الدين...بهذه القاعدة أراد الحلاَّج إعادة مبدأ الشرع الجماعي في الإسلام وأنكر حصر المسؤولية بيد الفقيه..وهذا ما ذهب إليه أكثر من واحد كما أشار الفقيه - محمد مهدي شمس الدين– تحت عنوان ولاية الأمة على نفسها...  وكان الحلاَّج يردِّد قول رسول الله (ص) " إتَّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله"...وعندما أطبق الفقهاء عليه وقدَّموه للمحكمة ، ترى لم يحاكم نفس الحلاَّج بقدر ما كانت الثقافة الموروثة تحاكم الإسلام نفسه ، وترى أيضاً أنَّ القاضي الذي أصدر حكمه إفتتح المحاكمة بأيات من القرآن الكريم ، قوله تعالى "إنَّما جزآء الذين يُحاربون الله ورسوله ويِسعَون في الأرض فساداً أن يُقتَّلوا أو يُصلَّبوا أو تُقطَّع أيديَهم وأرجلهم من خلاف أو يُنفَوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم"..المائدة آية 33..بهذا النص يكون القاضي قد أدان الحلاَّج سلفاً وبالتالي هو مفسد في الأرض..بهذه المعادلة التي تقول أنه من حق الناس أن يكونوا ضد الدولة التي تنطق وتحكم بإسم الله تعالى في الأرض ، وضد المؤسسة الدينية التي تُكبِّل عقول الناس ،هنا يُصبح هو عدوٌ لله تعالى ولرسوله الكريم محمد (ص) ويصبح هو عين المفسد والإفساد في الأرض..كل هذا بناءاً لتشخيص الفقيه والقاضي فيسقط عليه النص بالقتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض...فهذه الثقافة هي الحاكمة في تاريخنا والمتمسِّكة بها كل الجماعات والتيَّارات والحركات الإسلامية والدينية والمُخوَّلة لتطبيق النص الديني من أجل تطبيق أحكام شرع الله تعالى...فالدعوة إلى رفع الظلم عن أهل الأرض الجياع والمعذبين والمشردين ورفع القهر والحرمان ورفع السيطرة والهيمنة على عقول الناس تصبح هذه الدعوة هي الفساد والإفساد ، وتصبح المحكمة المنعقدة تحت سلطة شرع الفقيه هي العادلة والمستمدة من كتاب الله تعالى والقاضي يكون هو الناطق الرسمي باسم الله ورسوله وبالشرع والدين الحنيفين....وهذا ما وصفه التوحيدي في كتاب الإشارات الإلهية قال : " والعجب أنك أيها الفقيه والأديب النحوي، تتكلَّم في إعرابه وغريبه – يقصد القرآن الكريم – وتأويله وتنزيله ، وبأي تعلق ، وكيف حكمه في ما خصَّ وعمَّ ، ودلَّ ، وشمل ، وكيف وجهه ، وكيف ظاهره وباطنه، ومشتمله ورمزه ، وماذا أوله وآخره ، وأين مصدره وعجزه ، وكنايته وإفصاحه ، وكيف حلاله وحرامه ، وبلاغته ونظمه ، وغايته ودرجته ومقامه ، ومن قرأ بحرف كذا ، ثم لا تجد في شيء مما ذكرتك به ، ووصفك فيه ذرَّة تدلُّ على صفائك في حالك ، وإدراكك ما لك ، بل لا تعرف حلاوة حرفٍ منها ، فعلمك كله لفظ ، وروايتك حفظ ، وعملك كله رفض ".....

 الشيخ عباس حايك