أبي لم يكن فقيهاً ، لكن بالتأكيد كان متفقِّهاً ، ولم يكن فيلسوفاً لكن لا شبهة في إمتلاكه فطرة صافية محمولة بقدرة قويِّة على التقاط المعقولات العقائدية وتمييز الحُسنُ من القبح... لم يكن أبي أستاذاً حوزويَّاً ، لكنه قرأ بلغة الضَّاد روايات وأحاديث الكُليني والصدوق والطوسي التي تُعدُّ من مسلمات المذهب بل ومن ضرورياته.. ويوماً ما لقد أذهلني وأبكاني لا من وجع بقدر ما أقرح قلبي وأثلج صدري وأنعش قلبي ونوَّر بصيرتي وبصري بما وصفه لي من قول الأئمة (ع) " لا يغرنَّكم كثرة صلاة المرء وقيامه لربما عادة اعتاد عليها ، ولربما جعل الدِّين ولباسه فخاً له وهو يختلي الناس بظاهره حتى إذا لاح له الحرام اقتحمه...وكم من واعظ يعظ الناس وهو في الواقع ذئبٌ بثوب ضأن يحتال على فريسته... أبي وفي حياته كلها كان ملتزماً بما أوصى الله تعالى في قرآنه الكريم وبما حرَّم ، كان دائماً ينصحني لا تحدِّث الناس بالدِّين كثيراً دعهم يرونه في أفعالك وأعمالك " فمن يعمل مثقال ذرَّة خيراً يره " وأعظم ما هدى فطرتي إليه وأرشد عقلي له وأحيا نفسي به أن انصر المظلوم مهما كان دينه وعرقه ومذهبه وفلسفته وبدون قيدٍ وشرط...وأن أخذل الظالم مهما كان دينه وعرقه ومذهبه وفلسفته ومبرراته وتبريراته وفتاواه .. فكم تشدَّق أبليس من فمه بلاغة في المعنى وفصاحة في اللفظ... يا ولدي لكل إنسان الحق مثل ما لك ، أليست غاية الدِّين أن يشدَّك للآخرين برابطة الإخاء ، فإذا وجدت رابطة الإخاء بصفة الإنسان وحدها فلا إثم في ذلك.... وشدَّ نظري للتأمل بعمق وبمدى مفتوح في قوله الله تعالى " إنَّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم زخرف القول غروراً " الذين يسحرون عقول الناس الطيبة الساذجة لتسكرهم سكراً فيصبحون سكارى وما هم بسكارى...كثيراً ما كان أبي يشدُّ عليَّ أن أقرأ جيداً في المأثور الديني الصحيح من أنه كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه... وكم من صائم لا يفيد من صومه سوى الجوع والعطش ..وكم من مصلٍّ صلاته عادة وليست عبادة ، ووظيفته دولارية لا فريضة روحية... وكم من عالمٍ قد قتله جهله وعلمه معه لم ينفعه..وكم من خطيبٍ يأمر الناس وينسى نفسه ويجعل من الحديث الديني بديلاً عن العمل به فيكثر من هرس الكلام وحفظ الأحاديث وينسى أنه من نصَّب نفسه للناس إماماً وواعظاً وخطيباً فليبدأ بوعظ نفسه...وكم..وكم..وكم... يا ولدي إنَّ الدِّين نصوص وإذا دخلت النصوص جاءت اللصوص..وإنَّ أسوأ الشياطين هو الشيطان الذي يصلِّي ..وإنَّ الدِّين عميق ، وإنَّ قرآنه حمَّال وجوه ، وإنَّ اللصوص بإمكانهم تأويل النصوص للشيء ونقيضه في نفس الوقت ، كما وصف القرآن "يُحرِّفون الكلم عن مواضعه"... يا ولدي كما أنَّ النصوص تحرق فهي تورق ، وكما هي تضلُّ فإنها تهدي ، تميت النفوس كما هي تحيها..يا ولدي الدِّين شمس كما هي تضيء فإنها تحرق ، والإنسان هو الذي يقرِّر أن يستضيئ بنورها ، أم يحترق بنيرانها ، الإنسان وحده هو الذي يقرِّر من بين جميع المخلوقات كلها ، وحده هو المسؤول عن تقرير مصيره ومستقبله وحياته..ومما لا شك فيه ولا ريب يا ولدي أنَّ أهل الضلال على نوعين هناك ضالُّون وهناك مضلَّلون ، بيننا أبالسة مضِلُّون من شياطين الجنِّ ، وبيننا مضلَّلون قد طلبوا الحقَّ ويطلبونه بصدق لكنهم أخطأوا الطريق إليه...فسلام الله عليك والدي وطاب عمرك بالخوف والخشية والحكمة والإحتياط الذي هو باب النجاة..