إنَّ مفهوم الجزميَّة والقطعيَّة يتضح أكثر فأكثر في تقسيم الناس وتصنيفها إلى ثنائية تعسفيَّة بين مؤمن وكافر وقريب وبعيد ، ومن أهل الجنة أو من أهل النار..هذا هو المنهج المتَّبع عند التيارات الدينية السلفية ، فمن كان يؤمن بما تعتقد تلك التيارات ويفكِّر مثل تفكيرهم ويسلك سلوكهم فيضفون عليه أنه من أهل الخير وبالتالي من أهل الجنة.. وإذا خالفهم فإنهم يكيلون عليه وينعتونه بأوصاف الكفر أو أنه ضالٌّ مُضِل ويدخلونه النار وبئس المصير ، حتى لو كان يقرُّ بالشهادتين ويؤدي الواجبات الدينية المفروضة عليه وإن كان يتحلَّى بالفضائل والأخلاق وبالسيرة الحسنة..فكل هذه السِّمات والخصائص تنطلق من أصول موضوعية ومباني يقوم عليها هذا النحو من الإعتقاد بالدِّين أو بموافقة المنهج في الرؤية السياسية التي يقرِّرها أصحاب السلطات االدينية والسياسية..فمن هنا نرى أنَّ أخلاق هؤلاء الدُغمائيين لا تنبع من شعور وجداني وأخلاقي وقِيَم إنسانية ، بل نراها تنبع بمجرَّد التكليف سواء كان تكليفاً دينياً أم سياسياً للتخلص من العقوبة والمحاسبة الإلهية..فعندما نرى الفرد يتحرَّك على مستوى صلة الرحم وزيارة الجار أو الصديق والمريض أو أن يدفع الخمس والزكاة أو مساعدة الفقير والمحتاج يتحرَّك من موقع التكليف الشرعي بشقيه السياسي والديني مع جمود العاطفة والحسِّ الوجداني والشعور الإنساني والأخلاقي ، هذا هو السبب الجوهري الذي يدعو الإنسان المقيَّد تحت هذه العناوين أن يتعامل مع الآخر المخالف له دينياً وسياسياً بلغة الخصومة والعداء والكراهية والحساسية المذهبية والطائفية ويساهم في عملية إمتصاص روح الأخوَّة والتعاطف من قلوب أتباع المذاهب الدينية المغايرة له والإنتماءات السياسية المختلفة معه...ولهذا فإنَّ الدين والإنتماء السياسي والطائفي لا يُحدِّد شخصية الإنسان بل تحدِّده التربية والأخلاق والبيئة والمجتمع ، وبالتالي فإنَّ المؤسسة الدينية والفقهاء والعلماء من أتباع هذه الرؤية أكَّدوا للناس على قشور الدِّين وأصدافه وقد أهملوا جوهره ولبابه ، فتصوَّر الناس أنَّ الدِّين هو بإقامة مأتم أو دفاع عن مقام أو مواكبة مسيرة أو غيرها من الشعائر التي قد تمتصُّ كل رغبة وجدانية ونفسية خيِّرة تطلب من الإنسان التوجُّه الحقيقي إلى الله سبحانه وتعالى وإلى كل فضيلة قد تستنزف قِوى الخير والوجدان عند الإنسان فيبقى في مجال الأخلاق والإهتمام بالناس والمجتمع بدون رصيد عاطفي في عالم الروح والقلب والوجدان ، فمن هنا نؤمن بالإمام علي (ع) لا لأنَّه إبن عم الرسول (ص) ولا لأنَّه زوج الزهراء (ع) بل نؤمن به لأنَّه طلب الحق وسار في خط العدال والمساواة والإيمان بأنَّ الإنسان أخو الإنسان أحبَّ أم كره وأنَّ جميع الناس سواسية كأسنان المشط....فمثل هذه الحقَّانية لا تنعكس إلاَّ على الأعمال والسلوكيات ولا تتجلَّى إلاَّ من خلال واقع الممارسة الأخلاقية والإنسانية في حركة التفاعل الإجتماعي للإنسان ...فالنتيجة أنَّ الدُغمائية في الدين والفكر والسياسة كما سمَّاها الدكتور علي شريعتي قد فشل في إثراء المحتوى الداخلي للإنسان الذي يعاني من جفاف في الروح وذبول المعنويات والأخلاق ولم تنتج سوي تضحُّم المؤسسة الدينية وتراجع العقلية نحو الخرافة وتقليد الآباء والأجداد ( إنَّا وجدنا آباءنا على أمَّة وإنَّا على آثارهم مقتدون)....الشيخ عباس حايك