في أيِّ شقَّةٍ تسكن ؟ في هذه العمارة الطويلة أو تلك الناطحة...تبدو وأنت في كل أناقتك من زوَّار الفنادق ومن أصحاب الرساميل ومن التجار الناجحين في أعمالهم الحرَّة..كيف إستطاعت بذلة واحدة وربطة عنق وحيدة أن تعطي عني إنطباعاً لا يشبهني بشيء...يا صديق الطفولة ليس في الحذاء الذي لمع في زجاج عينيك الصغيرتين تكمن الثروة التي منحني إيَّاها كعب الحذاء وغشاوة نظَّارتيك..ما أنا إلاَّ فقير يبيع الحبر على طرقات الأوراق والدفاتر وحظِّي عاثرٌ مثل خطاي المتعثِّرة في طريق الرغيف...يا صديقي ذنبي أنني فتحت دكاناً للعقل وبضاعته كاسدة فلا زبائن ولا أصدقاء حتى أقرب الأقرباء الذين أحبُّوني منذ صغري هجروني ولم يعد يكترثوا لأيِّ شيء لأنَّ مصالح أحزابهم أعمتهم...يا صديقي أنا العابر في الطرقات مثل الزواريب الضيِّقة لا إسم لي ولا عنوان..مجرَّد أقدام تمشي ولا تدري إلى أين...وخيالي يرسم سرابه على الرمال والجدران مثل نخيل الليل...عذرأ لقد ظننت وبعض الظن أثمٌ أنَّ الأثواب للأغنياء وأنَّ الفقراء لا يغطُّون إلاَّ عوراتهم حتى يُتيحون للأغنياء مُتَع شهواتهم ورغباتهم...يا صديقي تعال لأريك شيئاً من نفسي ومن ذاتي المريضة على فراش الجسد..تعالى وامسك هذه العظام التي تحمل كفر الفقر إلى المعابد والكنائس والمساجد لتصلِّي صلاة الشكر على نِعَمه كلها....تعال معي وصلِّي مثلي راكعاً أو ساجداً وطأطئ الرأس طيفة وخشية وإلاَّ قطعه سيف السلطان ومشيت بلا رأس وأصبحت فزَّاعة لعصافير الشوك.... يا صديقي كلُّ ذلك بحجَّة أنَّ الله تعالى هو الذي آثرهم بالمال والسلطة والسلطان والنفوذ ، وأنَّه تعالى اختار البؤس والتعب للمستضعفين في الأرض ولا إعتراض على إرادته وبلائه ، لأنَّ كل شيء بحسب زعمهم هو من قضاء الله وقدره حتى المرض والجوع والجهل (ولي قصَّة طريفة مع أحد الشيوخ - الذين يتبؤون منصباً - من المترفين والمتخمين ومن أصحاب الرساميل وما ملكت يمينه من عقارات وأملاك فقلتُ له: كيف تكون داعية للناس وأنت في هذا الترف والثراء..فردَّ قائلاً: وأمَّا بنعمة ربك فحدِّث...ما أشبه هذه النشرات التي يوزعونها اليوم بالمجَّان الدعاة الدينيين والقادة السياسيين وينسبون فيها إلى الأديان تقسيم الناس إلى كادحين ومترفين ويؤكدون أنَّ الفقر من صنع الله لا من صنع الأوضاع الجائرة والأحزاب القائمة والمسيطرة والقائمين على حمايتها وإضفاء المشروعية عليها...في الوقت الذي يُنكر فيها الأنبياء والرسل والمصلحون هذا الزعم الذي تتمسَّك به الطبقة الدينية والسياسية من الجحود بالحرية والمساواة والبذخ والترف على حساب الضعفاء لتزداد ثرواتهم وتزداد سلطتهم نفوذاً وتقويةً وكفى ذلك مبرِّراً وتبريراً....فلنسمع خطاب القرآن الكريم في سورة الشعراء آية 127 قوله تعالى "أتبنون بكلِّ ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون " ولنسمع خطاب الإنجيل"إنَّ دخول الغني إلى ملكوت الله أصعب من دخول الجمل في سَمِّ الخياط".........الشيخ عباس حايك