فوجئتُ، وفقاً لمعايير لن تغيب عن أي مراقب خارجي ، بما قاله كبير الاستراتيجيين السابق في البيت الأبيض ستيڤ بانون وأحد أبرز المخططين للرئيس دونالد ترامب خلال الحملة الانتخابية وفي الأشهر الأولى من رئاسته، عندما توقّع في مقابلة طويلة مع مجلة “فانيتي فير”  في  21122017رافَقَتْه فيها إلى اليابان، أن فرص دونالد ترامب لإكمال ولايته لا تتجاوز الثلاثين بالمئة.

سيشكر كثيرون هذه المرة هذا البروباغانديست اللامع الذي لعب دورا مهما في نجاح ترامب الشعبوي في الانتخابات… سيشكرونه مرتين: الأولى أنه يجعلهم أكثر تفاؤلا بإمكان خلاص أميركا السريع من هذا الرئيس الاستثنائي في تدنّي المستوى والكذب والجشع الرأسمالي (مضافاً إليها وقاحة تشجيع إسرائيل) والمرة الثانية في أنه يؤكد جدية التهم الموجهة إليه كما جدية بحث النظام السياسي الأميركي في آليات إخراجه من السلطة بمعزل عن مدى السرعة أو البطء في حصول ذلك.

إلا أن مسار عام 2017 الذي تولّى ترامب في معظمه مهماته الرئاسية المضطربة بما يتجاوز مجرد تسجيل قرارات وأحداث مرتبطة بهذا الرئيس غير مألوف الارتباك والإساءة لأقوى دولة في العالم، وفي الحقيقة لمعايير ممارسة السياسة في العالم قياسا بأهمية النموذج الأميركي… هذا المسار لم يعد يقف عند هذا الحد لسبب بسيط أن هذا الرئيس التافه يواصل تغيير أميركا والعالم. رئيس صغير يغير العالم. فوفقاً لما علّمنا التاريخ، وعن صواب، الكبار هم الذي يغيرون العالم.

اتخذ ترامب في أقل من اثني عشر شهرا مضت على توليه الرئاسة عددا من القرارات الاستراتيجية:

– الانسحاب من اتفاقية باريس العالمية حول التغيّر المناخي، وهي أكبر اتفاقية في التاريخ لحماية البيئة، مما يجعل الصناعة الأميركية الكبرى في العالم خارج معايير وقف تغير المناخ الخطر،

-الانسحاب من اتفاقية مجموعة دول شرق آسيا  الاقتصادية (الشراكة عبر الباسيفيكي) التي مثلت أحد أكبر المنعطفات الاستراتيجية في عهد الرئيس باراك أوباما وانضمت إليه 12 دولة على الباسيفيكي أصبحت 11 مع الإصرار على تجديداتفاقها وهي أوستراليا بروناي كندا تشيلي اليابان ماليزيا مكسيكو نيوزيلاند بيرو سينغابور وفييتنام.

– إقرار نظام الضرائب الجدي في الولايات المتحدة الذي يؤمن تخفيضات ضخمة على ضرائب الشركات الكبيرة مغطّاةً بتخفيضات هامشية لبعض فئات الطبقات الوسطى. وهو القانون الذي وصفه بول كروغمان (حائز على نوبل في الاقتصاد) ليس فقط أنه “القانون الجريمة” بل هو يخدم المصلحة الشخصية أي الحسابات البنكية للجمهوريين الذين أقروه. وهذه تهمة غير مألوفة أو نادرة في التشريع الأميركي أو حتى الغربي. حتى أن افتتاحية “البوسطن غلوب” (24-12-2017) قالت أن مالية شركات دونالد ترامب ستستفيد من هذا القانون رغم ادعائه العكس. (راجع نص كروغمان في مكان آخر في الصفحة اليوم)

– الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وبدء إجراءات نقل السفارة الأميركية إليها. والجدير بالذكر أن أربعا من الدول التسع التي أيدت ترامب في الجمعية العامة للأمم المتحدة، كاتبُ هذه السطور مستعدٌ للمراهنة كم عدد الذين يعرفون أنها دول قائمة بذاتها وهي نورو وبالو وميكرونيزيا وجزر مارشال وخصوصا الدولتين الأوليين.(بينما طبعا للتذكير وقفت 128 دولة بما فيها معظم الاتحاد الأوروبي وكل دوله الأساسية ضد ترامب و35 امتنعت عن التصويت).

– إصدار قرار تنفيذي بتعقيد وإطالة ورفع رسوم استقدام الشركات التي تريد التوسّع كفاءاتٍ أجنبيةً في مجال التكنولوجيا العالية وهو ما يخالف أحدَ أهم تقاليد الاستقطاب الأميركي النخبوية.

* * *

ليس عيبا طبعاً أن يكون رجل السياسة أو امرأة السياسة ابن أو ابنة أغنياء كبار، لأن المقياس الدائم هو الرؤية الاجتماعية والاقتصادية من جهة لهذا السياسي أو السياسية ومستوى النزاهة الشخصية في الأداء من جهة ثانية. لكن في حالة دونالد ترامب ثمة الكثير مما يستفز في “حضور” ثروته في العمل العام بدءاً من انكشاف تمنعه الثابت عن دفع ملايين الدولارات من الضرائب وانتهاءً اليوم بقانون الضرائب الجديد.

هذه صورة بشعة لرجل اليمين تظلم حتى الكثير من اليمينيين! وخصوصا في تقاليد العمل السياسي الأوروبي بل حتى الأميركي.

من المعلومات المثيرة للإعجاب في كتاب هيلاري كلينتون “ماذا حدث” (بدون علامة استفهام) أو الأدق “ما حدث” والذي تشرح فيه أساسا تجربتها الانتخابية الأخيرة، أنها تعترف بأن والدتها عملت خادمة منزل لكي تتمكن (الوالدة) من العيش. يأتي الاعتراف في سياق استعادتها لمقطع من خطبة لها خلال الحملة (ص382 الصادر عن منشورات “سيمون & شاستر” أيلول 2017). تروي كلينتون أن أمها التي تخلّى عنها والداها في سن الثامنة، وضعاها في قطار إلى كاليفورنيا لتعيش مع جدّيها اللذين أساءا معاملتها مما أدى إلى أن ينتهي الأمر بها للحياة مستقلة والعمل كخادمة.

هيلاري كلينتون من دون شك هي واحدة من أهم نساء التاريخ السياسي الأميركي إن لم تكن الأهم. صحيح أن أحد أخطائها أنها أعطت الانطباع مع زوجها الرئيس الأسبق بيل كلينتون أنها سقطت في فخ التجميع السهل للمعونات المالية من الخارج لصالح مؤسسة كلينتون لكن سجلها الشخصي على هذا المستوى لا يقارن بصورة دونالد ترامب الشرهة وغير المؤهلة للرئاسة.

تبقى المشكلة العميقة وهي أننا لسنا أمام مجرد رئيس أميركي تافه عابر، بل أمام رئيس يأخذ بواسطته جزءٌ من المؤسسة الأميركية قراراتٍ استراتيجيةً داخليا وخارجيا من شأنها تغيير أميركا والعالم… ولو طُرد بعد ذلك أيا يكن الشكل القانوني لمسار إبعاده.