زيارة أي وزير خارجية أميركي إلى لبنان ليست مرحَّباً بها فقط، بل هي أيضا مطلوبةٌ دائما كنوع من تجديد “الاعتراف” بلبنان الدولة أو تجديد رفع مستوى “الاعتراف” بلبنان الدولة. أتحدث هنا عن الاعتراف السياسي (لا الديبلوماسي المحقَّق طبعاً).

وليست هذه الزيارة مؤثِرةً فقط في حاضرنا كما لا تستطيع زيارة وزير خارجية دولة أخرى غير الولايات المتحدة الأميركية أن تؤثِّر، بل هي قادرة على المساهمة في تقرير وجهة مستقبلنا الأمنية وبالتالي الوجودية في بلد حروب أهلية باردة دائمة وأحيانا ساخنة كلبنان.

إذن مستر بومبيو كما تنضح الأسطر السابقة هناك في لبنان موضوع واحد يستحق الأهمية لدى اللبنانيين، دعكَ من كلام بعض السياسيين اللبنانيين “الإصلاحي” الفارغ، هو السلام، السلام، السلام الداخلي والخارجي.

يجب أن نعترف، أن الولايات المتحدة الأميركية في السنوات الثماني ونيّف المنصرمة لها فضل المشاركة في بناء سياسة متفهِّمة لظروف لبنان الصعبة والهشّة بعد انفجار الحرب السورية التي فاضت علينا، وهذا طبيعي، بكمية نوعية من الوقائع والمشاكل. هذه الوقائع والمشاكل كان يمكن بسهولة أن تفجِّر الوضع الأمني وتأخذنا إلى الحرب الداخلية لولا سياسة واقعية أميركية غربية دعمت نوعا من التفاهم غير المقدّس مع أعدائها في لبنان على تجنيبه حرباً أهلية جديدة، دائما مع الأسف، بعض اللبنانيين من أطراف متنوعة، هم جاهزون لها.

غير أن الخدمة الأخرى التي أسدتها الإدارتان المتعاقبتان في البيت الأبيض للسلم اللبناني هي حتما ضبط أي مغامرة إسرائيلية جديدة على أراضي بلادنا. لا شك أنه لا تزال عقلانية مؤسستي السياسة الخارجية الأميركية الديبلوماسية والأمنية قادرة على ضبط الجموح الإسرائيلي لا سيما أن هذا الجموح هو بقيادة صديق إدارتك الأقرب بنيامين نتنياهو.

لقد تميّز الدعم الأميركي للدولة اللبنانية، وبالتالي للسلم اللبناني ولا يزال، بمساندة معنوية ونسبيا مادية فعالة للجيش اللبناني، كانت الذروة فيها مساهمة الجيش في القضاء النهائي على الوجود العسكري للتنظيمات التكفيرية على الأراضي اللبنانية والتي ترافقت مع انتهاء هذا الوجود في المناطق القائمة على الجهة السورية من الحدود اللبنانية السورية.

لا بد من تسجيل التغيير المثير للموقف الإسرائيلي في أقصى الجنوب الشرقي عند سفوح الجولان وجبل الشيخ بالسماح بتوسيع انتشار الجيش السوري إلى حدود 1974 في القنيطرة ومحيطها مما انعكس إيجابا على استقرار الوضع اللبناني. وهذه تطورات ليست إلا بتأثير السياسة الأميركية بما فيها الجزء التفهّمي للوضع اللبناني الهش والمعقّد حتى لو أنها تأتي في سياق استراتيجية أميركية أوسع في سوريا.

لا زلنا نراهن على الاهتمام الأميركي بالسلم اللبناني ولم يظهر حتى الآن ما يناقضه. لكنْ لدينا في ذاكرتنا زيارة وحيدة لوزير خارجية أميركي تعتبرها النخب اللبنانية، بما فيها المؤرخون من معظم الاتجاهات، أنها أعطت الضوء الأخضر للحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، هي زيارة وزير الخارجية الدكتور هنري كيسنجر في كانون الأول عام 1974 إلى لبنان التي قيل يومها أنه “اقتنع” عيانيا بعدم قدرة الدولة اللبنانية على مواجهة التنظيمات الفلسطينية المنتشرة على أرضه. كذلك من النظريات السائدة لدى النخب اللبنانية والعربية أن الدكتور كيسنجر ، كان منصرفاً إلى أولوية ترتيب ممهِّدات السلم العربي الإسرائيلي الذي كان يعني ضمان استقرار دول عربية أساسية كمصر وسوريا والعراق، والأردن بعد تجربة عدم استقرار سريعة ومكلفة، بينما بالمقابل استنزاف الفصائل الفلسطينية المسلحة على الأرض اللبنانية الهشّة ولهذا جرت التضحية بالسلم اللبناني خمسة عشر عاما.

زيارتك السيد الوزير بومبيو مرحّبٌ بها فعلا كقوة سلام. أما وأنها قوة ضغط طبيعي على إيران في لبنان فهذا معروف. وما يعنينا أنها كانت ولا تزال ضغطا سلميا في الاقتصاد والسياسة، يأخذ مصالح كل الشعب اللبناني بالاعتبار.
المهم بالنسبة لنا في لبنان، ورغم كل فشل الطبقة السياسية الحاكمة في إدارة مرافق الدولة الأساسية، هو أن تواصل الإدارة الأميركية دعم السلام اللبناني.

المنطقة المحيطة بلبنان تغيّرت عن السابق. فأي انفجار لبناني الآن من شأنه ليس فقط أن يزيد حربا أهلية على حروب المنطقة المندلعة بل، كما تعلم وكما يخبرك زملاؤك الأوروبيون، سيؤدي إلى تجديد بل تفاقم موجة نزوح غير شرعية جديدة من بلدان عربية وآسيوية عبر لبنان إلى أوروبا الغربية، ناهيك طبعا، ولديكَ في دائرتك الانتخابية قبل أن تنتقل من الكونغرس إلى الإدارة في واشنطن، جالية لبنانية مهمة أنت على صداقات مع العديد منها، مع ما سيعنيه ذلك، أي الانفجار، من ضربة قاسية على الوجود المسيحي الفاعل والأساسي في لبنان بعد شبه الانقراض الذي تعرض له مسيحيو سوريا والعراق. طبعا أي انفجار جديد سيصيب كل الطوائف ومعها خصائص لبنان كبلد متميّز وبالتالي ضروري لكل المنطقة.

كل الخشية أن يكون بعض الجهات في واشنطن مقتنعا بأن “صفقة القرن” التي تعد لها إدارتك يجب أن تؤدي إلى سياسة مختلفة في لبنان مع أن التاريخ لا يمكن أن يكرر نفسه بالصيغة “الكيسنجرية” نفسها إذا جاز التعبير؟

السيد الوزير: لبنان بالنتيجة بلد “غربي” النزوع والميول بمسلميه ومسيحييه، وأعتى أعدائكم السياسيين يعلِّمون أبناءهم في الجامعة الأميركية في بيروت، الجامعة الأولى في لبنان وإلى جانبها الجامعة اليسوعية وجامعات قليلة أخرى، مثلهم مثل الأغلبية من الشباب والشابات اللبنانيين التي تطمح إلى التخصص في أميركا ودول الغرب.

لبنان بلد رائع لا في الجغرافيا فقط بل أيضا وأساسا في التنوع الثقافي والاجتماعي والديني. وأهلا وسهلا بك كداعم للتوازن والسلام.