في كتابه “القناة الخلفية” الصادر ربيع هذا العام يروي السفير وليام بيرنز كيف جهدت الديبلوماسية الأميركية لإقناع السلطات المصرية، بعد إقصاء الرئيس محمد مرسي في يوليو 2013، السماحَ لبيرنز ومعه وزيرا خارجية قطر والإمارات بمقابلة الشخصية الثانية والأقوى في تنظيم “الإخوان” خيرت الشاطر على أمل إجراء حوار بين الطرفين، السلطة الجديدة بقيادة الجنرال السيسي و”الإخوان”. ذهب الوفد الثلاثي الأميركي الخليجي إلى سجن طورة حيث كان الشاطر معتقلا مع العديد من قيادات “الإخوان” بينما كان مرسي معتقلا في الإسكندرية آنذاك. ويصف بيرنز في الفصل الثامن من كتابه كيف جرى النقاش داخل السجن. إذْ كان خيرت الشاطر متصلِّبا في آرائه واتهاميّاً للإمارات ومتحمِّساً في التعبير بشكل متزايد إلى حد أنه في لحظة دفع بيده كتِفَ بيرنز مما استوجب تأهب حارس الأمن للتدخل لولا مسارعة خيرت الشاطر إلى الابتسام والتأكيد أنه لم يكن ينوي تهديد أحد.

كانت تلك المحاولة الأخيرة للتوفيق بين الطرفين…

تكشف هذه الرواية كيف كان لا يزال لدى “الإخوان” يومها حتى في السجن شعورٌ بالقوة تبيّن أنه وهمي، أو مبالَغ به، والاستنتاج هنا لي وليس لبيرنز، مما يفسّر نسبيا خطأهم القاتل الأكبر لسمعتهم منذ تأسيسهم وهو تشجيعهم بل تنظيمهم بأسماء تنظيمات مستعارة لحركات مسلحة وتفجيرات إرهابية بعد إقصاء الجيش لمرسي، وهو الإقصاء الذي استند إلى مد شعبي ضخم في شوارع القاهرة… عادلَ بل فاق تجمعات ميدان التحرير عام 2011.

كان الدكتور محمد مرسي كرئيس سابق، يستحق معاملة أفضل وأكثر احتراما بعد موته. هذا أكيد. فلا مبرر لكل هذا القدر من التجاهل الإعلامي المصري. لكن دور “الإخوان المسلمين” الهدّام في إثارة الحروب الأهلية في المنطقة، جعلهم الخطر الأول على وحدة دول ومجتمعات المنطقة. الآن الأولوية هي لحماية تماسك الدول والمجتمعات ولم تعد مع الأسف في العديد من الدول، لدمقرطتها. وهذا الانتقال المأساوي في الأولويات يتحمل الجزء الكبير من مسؤوليته التيار الديني الأصولي الأبرز في العالم العربي.

من أرغمنا بعد “الربيع العربي” على الاختيار بين الجيش والأصولية غير “الإخوان المسلمين”؟

بعيدا عن وقار الموت، سأستعيد بعض الملاحظات على ومن تجربة الرئيس السابق محمد مرسي.

في الأساس لم يكن اختيار الدكتور مرسي اختيارا موفّقا لـ”الإخوان المسلمين” للترشيح للرئاسة. فناهيك طبعا عن عدم احترامهم لتعهدهم العلني بعد ثورة ميدان التحرير بعدم ترشيح أي منهم، أي “إخواني”، لرئاسة الجمهورية، ارتكب هو وسريعا وبضغط من قيادة الجماعة التي كان يديرها المرشد العام ونائبه الشخصية القوية في التنظيم خيرت الشاطر الخطأَ الجوهري بإصداره ذلك القانون الدستوري الذي يعطيه الحق بالحلول مكان القضاء بل بتعطيل أحكام القضاء. استنفر هذا الخطأ كل القوى السياسية المصرية والنخبوية والشبابية عبر ما عناه من التسرع الذي أظهره “الإخوان” من حيث ظهور تلازم الجشع للسلطة مع نقص تجربة الحكم مما ولّد واحداً من، وأسمح لنفسي بالقول، أغبى القرارات في تاريخ مصر الحديثة.

هناك قرارات تنقص الحاكم فيها الشجاعة ولكنها ليست غبية، مثل قرار الملك فاروق الشهير بالرضوخ إلى تهديد السفير البريطاني، وهو تهديد أشهر، عندما اقتحم السفير سراي عابدين في شباط عام 1942 وأرغم الملك على قبول تشكيل حكومة برئاسة زعيم الوفد مصطفى النحاس باشا بعدما كان يرفض ذلك.

مثلما أسقط رضوخُ الملك فاروق المهين يومها شرعيةَ المؤسّسة الملكية كلها، والبعض يقول شرعية حزب الوفد الوطنية على المدى الأبعد، أسقط دستورُ مرسي “الإخواني” الفضائحي ذاك، الشرعيةَ الديموقراطية لـ”الإخوان المسلمين” التي كانت حصلت عليها من اندفاعة ثورة ميدان التحرير ثم اقلام الاقتراع.

الرجل، محمد مرسي، كرئيس، هو بدوره بمعنى ما ضحية “الإخوان المسلمين”. ضحية جماعته. ضحية انكشاف مشروعهم لـ”أخونة” الدولة المصرية سِلْماً، ولإضعافها حربا لا تزال مستمرة. فكونه أول رئيس منتخَب لمصر لا يكفي لاعتباره، واعتبار “الإخوان”، جزءا من مأساة غياب الديموقراطية المفجع في معظم العالم العربي. أول رئيس جمهورية لإيران أبو الحسن بني صدر، والمنتخب أيضا بزخم الثورة يومها، كان يحمل في إقصائه المبكر انتكاسة مشروع دمقرطة الثورة الإسلامية أكثر مما حملته خسارة “الإخوان المسلمين” لموقع رئاسة مصر.

نجح ألوف الطلاب من ضمن مليونين نزلوا إلى الشوارع من سكان هونغ كونغ البالغ عددهم حوالي سبعة ملايين ونصف المليون تقريبا، نجحوا في دفن مشروع إعطاء سلطات هونغ كونغ، التابعة سياديا للصين ولكن ضمن نظام سياسي مختلف، الحق لسلطات المركز في بيجينغ باعتقال ومحاكمة أي مقيم على أرض الجزيرة ونقله إلى الداخل.

وهذا الأسبوع أيضا لن ينجح “الإخوان المسلمون” المصريون والعرب والأتراك في تصوير أن الرئيس السابق لمصر الراحل محمد مرسي قد دفن معه الديموقراطية المصرية في المقبرة نفسها.

هناك عنوان بل عناوين مختلفة للديموقراطية في مصر أو العالم العربي غير مقابر “الإخوان المسلمين”.