بعد مأساة إحراق اللبناني جورج زريق نفْسه كتبتُ على صفحتَيَّ على الفايسبوك والتويتر: “جورج زريق مات لأجل تعليم ولدَيْهِ وليس لأجل لقمة العيش. قيمة التعليم عند اللبنانيين هائلة”.

ربما يحتمل هذا الفصل، الذي لا ينفصل، قدرا عاليا من الرمزية لأن مشاكل كلفة التعليم هي جزء لا يتجزأ من مشاكل العيش. لكنْ فعلا قيمةُ التعليم عند جميع اللبنانيين مميّزة على أكثر من مستوى. وأستطيع أن أن أقول “جميع” دون أن أتهم نفسي بالمبالغة بما هي قيمة اجتماعية مكرّسة ومثْبَتة. لا أعني أنها تختلف عن بقية شعوب العالم، ففي المنطقة شعب مشرد وفقير كالشعب الفلسطيني في الدياسبورا أظهر اندفاعا استثنائياً في تعليم أبنائه وبناته في أسوأ الظروف التي عاشهاويعيشها، غير أن التكوين الاجتماعي واتساع الطبقة الوسطى التاريخي في لبنان (عكس كل الكلام الفارغ عن “زوالها”) جعلا التعليم بمتناول فئات واسعة عند المسيحيين وسكان المدن المسلمين ثم لاحقا عند بقيةالمناطق، بالنسبة للأرياف الطرفية، خصوصا انطلاقا من العهد الشهابي.

على هذه الخارطة الطائفية اللبنانية احتلت المدارس التابعة للكنائس موقعا خاصا في المجتمع اللبناني، المسيحي قبل تأسيس الكيان وتدريجيا بعض المسلم بعد نشوء الدولة اللبنانية. إنها، مدارس أولا منتشرة تقليديا في القرى وليس المدن فقط، أقصى القرى وفي بعض الحواضر ذات الأغلبية المسلمة وتُقدم نوعية في التعليم لاسيما في اللغة الفرنسية وتاليا الإنكليزية سمحت بنشوء ظاهرة لبنانية جمعت بين ديموقراطية التعليم ونوعية التعليم (ما قبل الجامعي). لم يكن هناك شبيه لها سوى بشكل محدود في البيئات المسلمة لولا مؤسسات مثل بعض مدارس المقاصد وبعض الكليات الخاصة في المناطق، تطوّرت الآن إلى ما هو نسبيا أوسع عند الشيعة و السنة وطبعا الدروز المستفيدين تقليديا من المدارس المسيحية ومن بعض مدارس مناطقهم الخاصة.

مدارس التعليم التابعة للكنائس من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال ليس لها فقط فضل أساسي ومركزي على انتشار التعليم النوعي عند المسيحيين بل أيضا على نخب واسعة من المسلمين منذ ثلاثينات القرن الماضي بل قبل ذلك.

كتبتُ سابقا وأكرر اليوم أن لبنان قد يكون الدولة الوحيدة في العالم الذي نشأ سياسيا عبر شبكة المدارس. لقد أسس “الاستعمار” (لمن يحب هذا التعبير) الفرنسي ولاحقا الاستعمارات المنافسة ولاسيما الروسي ثم الأميركي حالة خاصة في سوريا ومن ضمنها لبنان قائمة على نشر المدارس منذ القرن التاسع عشر وقبل ذلك علاقات فرنسية وأوروبية ثقافية مع أديرة جبل لبنان، لكن في جبل لبنان سيولد عبر نخبة جديدة متعلمة مشروع دويلة في المنطقة لم تحظ بفرصتها الجدية سوى مع “لبنان الكبير”، لأنها ولو بَرْعَمتْ في عهد المتصرفية بين 1864 و1914 إلا أنها لم تكن ناضجة سياسيا.

أعطت مدارس الكنائس لبيئات فلاحية مسيحية معدمة أو بالحد الأدنى فقيرة جدا في الأرياف فرصة تعلُّم بما فيها اللغة الفرنسية، لا يزال الفقر موجودا طبعاً ولا تزال المدارس هذه منتشرة وتقوم بدورها. هذه هي نفسها الآن موضع تعميم ديماغوجي ناقد بسبب أزمات الأقساط المدرسية لدى جميع المدارس في جميع المناطق. وهي أزمات تُرتكب فيه أخطاء وتظهر مسؤوليات متداخلة وليس في اتجاه واحد.

أنا هنا أعمِّم، فقد تكون هناك حالات خاصة في كلفة التعليم، لكن التعميم ضروري لرؤية الظاهرة وأهميتها. والدعوة العادلة لتتحلّى المؤسسات الدينية بالمزيد من المسؤولية الاجتماعية لا يجب أن يتطور إلى موقف إلغائي لقيمتها الراهنة والتاريخية

التجريح بمدارس الكنائس يخلط أمرين معا بطريقة تعسفية وشعبوية:

الأهمية الفائقة لما تمثله مدارس الكنائس أو التابعة لجمعيات دينية وخصوصا الكاثوليكية و الأرثوذكسية في الجمع بين ديموقراطية التعليم ومستوى نوعية التعليم وهو جَمْعٌ فشل في تجارب التعليم الرسمي اللبناني والعربي، وبين الشكوى العالمية على انحياز الكنيسة للأغنياء والرساميل الكبيرة لاسيما بعد مجيء البابا فرنسيس الذي طرح قضية الالتزام الاجتماعي للكنيسة وضرورة العودة إلى التقشف بقوة أخلاقية وسياسية غير عادية.

دعونا لا ننسى أن الشكوى من انحياز المؤسسات الدينية، أو بتبسيط، انحياز رجال الدين للرأسمال الكبير ومسايرة بل خدمة جشعه هو جزء لا يتجزأ من أدب العصور الحديثة سواء لدى المسيحين أو المسلمين، بهذا المعنى لدى الكهنوت المسيحي و”الكهنوت” المسلم. لكن هذه قضية مختلفة عن الخدمات التي تقدِّمهاالمدارسُ التابعة للمؤسسات الدينية في لبنان حتى لوكانت هناك حالات استغلال أو مبالغة.

لذلك يجب الانتباه إلى، بل الكف عن تحويل قضية جورج زريق المأساوية إلى مبرر للهجوم المؤذي على إحدى الظواهر الأهم في تركيبة التميز التعليمي اللبناني. فلبنان، وهو يشهد المزيد من انحطاط دولته بما لا حلول ممكنة بعد لهذا الانحطاط، يملك كبلد شبكة مدارس خاصة تابعة للمؤسسات الدينية وتتعامل أساسا مع فقراءالمناطق ومحدودي الدخل. إسألوا في النبطية وصور وعين إبل ومرجعيون وصيدا ودير القمر وبيت الدين وعاليه وسوق الغرب وحمانا وبعلبك وزحلة وطرابلس والكورة وعكار، إسألوا مسلمي هذه المناطق ما هو رأيهم بهذا النوع من المدارس وهل يقبلون إقفالها أو يشكلون وفودا لتتراجع عن قرار الإقفال أو التفكير فيه. فكيف بالنسبة للمسيحيين؟

أنا أب مثل مئات ألوف الآباء من كل الطوائف، كلفني تعليم أولادي في بيروت “الثروة” المالية الوحيدة التي حصلت عليها من سنين العمل المستمرة، وأعرف بالتالي مني ومن غيري القيمة الهائلة للتعليم في لبنان.

التعليم هو نبالة العصر الوحيدة والعادلة والخلاّقة. إذا كان هذا أصبح قيمة عملية عالمية فإن لبنان في المنطقة يشكّل التعليم فيه أحد مصادر الثروة الوطنية الرئيسية إلى جانب الاستشفاء والهجرة والسياحة… (ليس هنا مجال الحديث عن الاقتصاد غير الشرعي!!).

موضوع شبكات التعليم ما قبل الجامعي في لبنان هو موضوع يجب أن يدخل في نطاق قضايا مصالح الدولة العليا التي لا ينفصل فيها العمل التربوي عن الاقتصادي عن الثقافي باعتبارها أحد أكبر مصادر الثروة الوطنية اللبنانية، ولكن التي تحمل داخلها خدمة لبنانية متميزة عن كل المنطقة في بلد تتأسس فيه على هذا المستوى ما قبل الجامعي ثلاثية لغوية وثقافية عربية فرانكوفونية إنغلوفونية لا شبيه لها سوى في دول أو مناطق قليلة في العالم أبرزها كندا – كيبيك.

الفضيحة الاستراتيجية هي التعليم الرسمي. لأنه إعلان عميق عن انهيار الدولة، رغم سنوات ازدهار التعليم الرسمي الثانوي بين منتصف الستينات والسبعينات من القرن الماضي وبعض “جُزُر” في الجامعة اللبنانية قبل سقوط الأخيرة مبكرا في الانحطاط العام المتصاعد.

لا شبيه، أو لم يعد هناك شبيه، لشبكة المدارس التابعة للكنائس والجمعيات الدينية (ناهيك طبعا عن مدارس الإرساليات) في كل المنطقة. إنها جزء من منتوجنا المميز في الاقتصاد والثقافة أو ما أحب أن أسمّيه “العمالة التربوية” التي باتت منذ زمن طويل نموذجا يحتذى لجمعيات الطوائف المسلمة، لاسيما الأرياف.

لا أختصر هنا تاريخ التعليم اللبناني الخاص بظاهرة واحدة، لأن هناك أيضا تاريخا لمدارس هيئات أهلية كبيرة ليست دينية، (وبالمقابل طبعا مدارس خاصة صغيرة منقوصة المستوى والسمعة) ولكني أشير إلى إحدى أهم بنى التعليم في لبنان.