عاصر العلايلي رضوان الله عليه مخاض الملابسات السياسية والإجتماعية التي ولّدت فكرة التقريب من رحمها، وشهد قسوة الإحتلال والتفكك الذي أصاب وحدتنا في صميم بنيانها الروحي، وخاض مقارعة طويلة ضد الهزائم التي إستهدفت إلغاء الذات والهوية وضد مشاريع الإنفصال والتقسيم الذي كرس القطرية دولاً وأنظمة، وساهم بتأثيره العلي البالغ في تشكيل خطاب الوحدة داخل إنقسام هذا الخطاب نفسه بين تيارين :
أحدهما: يختصر هدف الوحدة في التصدي لمشاريع التجزئة والتغريب.
ثانيهما: تمحورت الوحدة عنده حول هم واحد يدعو لإسقاط الأنظمة وقذفها بالجاهلية من دون أي مقاربة لجاهلية التخلف والجهل في منابر المتكلمين بإسم الدين. 
ومع غياب روح النقد الموضوعي لتراثنا الإسلامي برزت مكانها ثنائيات المقدس والمرذول الأبيض والأسود ليجري إسقاطهما على ثنائيات المذاهب والفرق، وإنسحبت القداسة بإطلاقها الحصري على الفرقة الناجية دون سواها من الفرق الهالكة، ومن آثار هذه النزعة على الفكر الطائفي هو تورطها بالإعتقاد أن لا جدوى من التقريب مع الآخر المحكوم عليه بمستعات من الإتهامات الجاهزة .. والسؤال هنا كيف واجه العلايلي إخفاقات التقريب ومشكلاته؟ 
إذا كان الخطاب الإسلامي مأزومًا براهنه المعاصر بفعل تراجع – الاجتهاد – عن مواجهة إشكالات النهوض العربي والإسلامي وأولوياته.. فإن مأزق التقريب ما يزال عالقًا في التباسات العلاقة بين البنى الفوقية التي اصطلح العلايلي على تسميتها بالنواهض وبين البنى التحتية التي إصطلح على تسميها بالخفائض، كما لو أن خلل العلاقة بين النواهض والخفائض في جذورها هو الخلل الذي أصاب عقدنا الإجتماعي والسياسي.
يستبدل العلايلي مصطلح التقريب بمصطلح التوحد الذي يراه كالشيء المنظور في مرايا ذات أوضاع متنوعة ( وقد أحسن العرفانيون من الهنود حسنًا حين أسموا مثل هذه البادية وحدة الكثرة ) التي عبرت بذهنه إلى إسلام ما قبل المذاهب ونشوئها إسلام الرحمة.. وإسلام الجسد الواحد، ولأول مرة يستخدم مصطلح المسلم القرآني يوم كتب عن سمو المعنى في سمو الذات ويعلن عن بلاغة نظريته بهذا التشبيه فيقول : " وعلى أني من أنصار التوحد في الفقه كالجذع للدوحة وحدته لا تنفي تشعب أغصانها بل تعطي الدوحة وتكسبها فينًا وظلًا، وشيئًا فوق الفيء والظل إنه الفوح واللون والثمر ".
بهذه الكلمات رسم العلايلي رضوان الله عليه ملامح منهاجه للتوحد والتقريب.    
ولعل تصديره لكتاب مسألة التقريب أُسس ومنطلقات يشكل مدخلًا لإلتماس العصب النابض الذي تتمحور في وهجه فكرة الوحدة في دوائرها المترابطة من وطنية وعربية وإسلامية، كما هي في نهجه الذي تجسّد بدوره في مواقع الفعل والتأثير في عصره مبادرات ومواقف ورؤى إصلاحية أضافت إلى مسيرة التقريب رصيدًا إضافيًا من اللغة والفكر وفقه الإجتماع الإداري والسياسي التي تؤهله ليكون شاهدًا، ومن موقعه العلمي والأدبي على الإنهيار الفادح الذي آلت إليه مسيرة الأمة.

إقرأ أيضًا: رسالة الزَّمان لِكل ذي سلطان .. اعتبروا يا أولي الألباب
إن الآية القرآنية الكريمة : " إن هذه أمتكم أمة واحدة " الأنبياء -92- لا تصف واقع الأمة بل هي دعوة من الله إلى الأمة لإنجاز وحدتها.
وإذا كانت وحدة العقيدة هي الدائرة المنجزة في المجتمع الإسلامي، فإن حقل التقريب بالحوار يقع هنا في الطريق إلى إنجاز الدائرة الأوسع لهذه الوحدة أي الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية، وهي المجالات التي تحتم أوسع حوار وأعمقه بين أجزائها المتفرقة والمسلمون والمسيحيون بل وأهل الكتاب جميعًا مكلفون بإنجاز وحدتهم بكلمة سواء إستنادًا إلى المرجعية الإلهية التوحيدية التي أنزلت في كتب سماوية لحماية الإنسان وحقه في الحرية والكرامة والإختيار. 
إهتدى التقريب الإسلامي – الإسلامي إلى الغاية التي هي التوحيد , ولكنه تخلى عن موجباته ومتطلباته في مجالين : 
أحدهما : إدانة ظلم الدين في ضوء أزمة المعرفة بالدين من جهة، وإستشراء نزعات الطغيان والإستئثار داخل المؤسسات الدينية نفسها من جهة ثانية.
ثانيهما: إدانة ظلم الإنسان بمصادرة حقوقه في الحرية والكرامة والإختيار .
ويسعني القول أن العلايلي طرح سؤال الغاية من الحوار والتقريب في هذا الإطار، أعني بدون أن يكون سؤال المعرفة بالدين، وسؤال الحرية المحوران المركزيان لوحدة الأمة فإن نهوضها لن يتعدى حدود يقظة المذاهب والهويات الطائفية التي نشهدها في الراهن المعاصر بجنوح قاتل وقتيل. 
كذلك يقترب العلايلي من الشرط الإنساني للحوار والتقريب بملاحظة طرحها في مطلع شبابه، ليلفت إلى أن أي حوار ديني لا يمشي على خط الإنسان هو حوار خارج عن الدين، ونراه وهو صاحب المقالة المشهورة في أربعينات القرن الماضي يقول : " بأن الإيمان بالله أو المطلق الذي دعت إليه الأديان والفلسفات إنما هو في حقيقته إيمان بالإنسان ". 
وإذن عالج العلايلي تصويب بوصلة الحوار واستنهاض التقريب لا من خلال دعوته المستمرة إلى توليد مناخات الحوار والتقريب، فكان إنشغاله بحواضنها في النواهض والخفائض برفع شعاره النابض بأمل الوحدة الإسلامية " أن الإسلام دين حياة " ليظهر عملياً بتأسيسه – لحركة أنصار السلم – وهي حركة سياسية بمضمون أخلاقي وروحي مؤمن بقدسية الحوار والتقريب فجاهر بإعتراضه ضد النظم الدينية والسياسية المستبدة، وربط العلايلي ثقافة الحوار والتقريب بالديمقراطية التي آمن بقيمها انطلاقاً من رسوخ دعوته وإيمانه بحقوق الإنسان واعتبارها محورًا جوهريًا لكل حوار وتقريب.

وفي ضوء ذلك كله رفض العلايلي أن تجيء الوحدة إكراهاً من سلطة عليا حتى ولو كانت هذه السلطة عادلة، ذلك أن الوحدة بمفهومها القرآني لا تلغي حقائق التنوع ولا تنكر حرية المعتقد ولا تلغي الإجتماع المتعدد، لأنها أي الوحدة هي مشروع لنقل المجتمعات من حالة التصادم والصراع إلى حدائق التعارف والتنافس، وإذا كانت الوحدة بهذا المعنى هدفًا إنسانيًا وحضاريًا فإن الحوار بوصفه مدخل هذه الوحدة وطريقها لا يمكن أن يستمر إلا بشروط الهدف الحضاري والإنساني نفسه.
وإستنادًا إلى هذه الرؤية فإن التقريب الإسلامي – الإسلامي لم يكن بنظر العلايلي مشروعًا لتذويب المذاهب الإسلامية في مذهب واحد، لأن المذاهب الاجتهادية في تاريخنا الإسلامي لم تكن سببًا في تقويض الوحدة وتهديم بنيان الأمة، لأنها ولدت في محاضن العقل والعلم والاجتهاد ومارست أجمل أشكال الحوار المستند إلى منطق العلم وأدب الحق بالإختلاف.
وعلى هذا فإن سعي فقهاء الأمة للتقريب كان يعني فيما يعنيه إستعادة جوهرة الحوار ورد الإعتبار لفضيلة الإصغاء للرأي الآخر وإحترامه وإنهاء زمن القطيعة والتعصب الذي أنتج ظاهرة التراشق بالتكفير والتكفير المضاد.
وفي يقين العلايلي إن حركة ( التعارف ) أي الحوار كما يدعو إليها الإسلام هي نفسها دعوة الإسلام إلى معيارية العقل والاحتكام إليه، إذ لا مرجعية في الإسلام سوى مرجعية العقل بما في ذلك العقيدة الدينية نفسها، وحركة العقل في الإسلام غير مقيدة بأي شروط خارج شروط العقل نفسه وأحكامه. 

إقرأ أيضًا: خذوا الحكمة ولو من ابن الثمانين
لذلك تبدو أزمة تغييب العقل والحوار والوحدة في المسار الراهن للإجتماع العربي والإسلامي أزمة مقترنة بمفارقتين: مفارقة الاغتراب عن العصر، ومفارقة الاغتراب عن الهوية.. أي عن الإسلام.
نادى العلايلي بوجوب إزالة الحواجز والحدود المفرقة للمسلمين وانصبت جهوده إلى توسيع التقريب ليشمل حلمه العربي بإنفتاح الأديان العربية بعضها مع بعض، ورأى في ذلك مدخلًا للنهوض السياسي والإقتصادي والإجتماعي وتحقيقًا لفكرة الإنتماء للقومية العربية وآفاقها الحضارية الإسلامية والإنسانية.
وما من شك في أن إهتمام العلايلي بالجانب السياسي من مسألتي الحوار والتقريب دفعه إلى إعتبارهما جزءًا لا يتجزأ من إستراتيجية النهوض الشامل الذي لا يمكن أن نتخيله خارج إطار الإعتراف بشرط التكامل في مقابل النزعة الأحادية التي أغلقت على ذاتها أبواب الحوار والتقريب.
إن غياب الجانب السياسي من الحوار والتقريب واختزال مطالب التقريب قي حدود المصالح المذهبية الضيقة انتهى بمشهدياته المتنافرة، لا إلى إجهاض ما يمكن أن يفعله الحوار والتقريب من حوافز تستنفر فينا وعي الإحساس بالمسؤولية عن واقعنا المهزوم فحسب , بل إلى فقدان الأسس التي تنبني عليها إرادة التغلب على العقبات والتحديات وفي مقدمها تخطي التغلب على نزعات الطائفية السياسية وأثرها في تعطيل وحدتنا الكبرى، فجاءت مناداة العلايلي إلى وجوب التركيز على المضمون الاجتماعي والسياسي للحوار والارتقاء بالتقريب إلى مستوى الأهداف العليا للأمة وما يتصل بها من قضايا الوجود والمصير.
 نظر العلايلي إلى مشهد الواقع العربي وتأمل عميقاً في عوامل انشطاراته وخفاياها، فوضع بلغته المبدعة منظارًا يرى في الإختلاف والتعدد وظيفة محكومة بقيم الحوار وفكرة التقريب، وتأثر بنهج المقاصد الخيرية في بيروت ونهج الأزهر الشريف الذي ربط في وقت مبكر آمال التقريب والحوار الإسلامي – الإسلامي بقضايا التجديد والإصلاح، فقارب أسئلة النهضة وتحسين شروط قيامتها من موقعه كعالم دين وفكر وسياسة، بحماسة المنافح عن الوحدة الإسلامية في سياقها الجدلي مع الآخر المختلف أو الآخر النقيض وخاض معركتها ضد ظاهرتين من تلك الظواهر التي كانت تعتاش على الفتن والإنقسام:
 إحداهما: ظاهرة النفاق الديني 
ثانيهما: ظاهرة الدجل السياسي.
فلم يسلم من غبار تلك المعارك ولم يسلم من فساد تلك الظواهر، فاتهم بمثل ما يتهم به عادة رجال الإصلاح من تخوين وتكفير، وفي تحديد رؤيته لعناصر الخلل الكامن في خطاب التقريب يطرح العلايلي مسألة العلم والمعرفة لا بوصفهما من أدوات الوعي بالذات الإسلامية فحسب، بل كمشروع لتجديد مفاهيمنا عن لغة الدين داخل صيرورته في الحياة الإجتماعية والإنسانية ذلك أن التقريب الإسلامي خارج هذه الصيرورة هو تقريب ناشز عن تحديات الواقع وأسئلته المتغيرة.
وإذا كان ثمة من عيوب تشوب التقريب وقدرته على مواكبة الزمن فإن الأزمة في ذلك تعود إلى مشكلتين: 
إحداهما: مشكلة العنت والتزمت في شخصية المتكلم بإسم الدين.
ثانيهما : مشكلة أن يصير خطاب التقريب ذاته جزءاً من واقع التخلف العام الذي كانت تكابده الأمة وما تزال ولو بمفارقات نسبية بين عاصمة وأخرى من عواصم المسلمين.
وبذلك جاءت أبحاثه التحليلية حول إشكالات العقد الإجتماعي التاريخي في الإسلام، وما يقابله من طروحات فصل الدين عن الدولة أساسًا لإلفات الباحثين في قضايا الوحدة وشجونها إلى ثغرتين من ثغرات الحوار والتقريب:
إحداهما: التوظيف السياسي للحوار وفشله في إجتراح صيغة اجتماعية تستوعب المتغير من تحديات الهوية والدولة الحديثة.
ثانيهما: إستغراق التقريب في المجال التاريخي – الديني ليقع في أسر الجمود من جهة وتجاهل الواقع من خلال إقصائه للنخب الثقافية والعلمانية عن فضاء الوحدة من جهة ثانية.
وعنده أن رواد الحوار والتقريب طرحوا أفكارًا نوعية ومهمة لكنها ظلت مجرد أفكار بفعل الحلقة المفقودة بين عالم الأفكار وعالم الواقع الإجتماعي والسياسي الذي يتبناها المجتمع لتصبح في وجدان هذا التبني ومآلاته حقيقة في أرض الواقع المثلوم ومنطلقاً لأي تغيير واعد بالثورة المعرفية والإصلاح المنشود.

إستنطق القرآن الكريم وكشفت له اللغة وهو من كبار فقهائها ودعاة تطويرها عن وظيفة الحوار والتقريب في بناء اللغة التي كان يراها أوسع من مجرد وسيلة للتخاطب، لأن العربية هي لغة علم ومعرفة ولغة أدب ودين ولغة حوار وتقريب، وقاده اجتهاده بفقه الشريعة إلى فتح أبواب الإجتهاد على أدبيات الحوار والتقريب، فنادى إلى تطوير مفهوم الإجتهاد من مفهوم كان يدور حول إنتاج الفقه المذهبي إلى تجديد العلاقة الثنائية بين الفقيه والنص بصياغة فقه قرآني يعالج أسئلة الواقع ومشكلاته.. ومن تأسيساته في تطوير اللغة والاجتهاد يذهب العلايلي إلى حفائر التاريخ لينتزع منها ألغام الانقسامات والتنازع ويحميها من نوازع أن يصير التاريخ الإسلامي مضخة لتصدير الفتن بين أبناء الأمة الواحدة، وذلك بدراسته العلمية المعمقة حول عوامل الاختلاف ومعوقات التوحد في دين الأمة ودنياها.