ظهرت الأنسنة كمصطلح في الغرب الأوروبي واستلهمها المغرب العربي في القرن الماضي لتصبح العنوان الأبرز في تجديد الخطاب الديني ونقدياته .

كذلك ظهرت الأنسنة الدينية في أوروبا المسيحية في القرن السادس عشر ولم تتحرر من مرجعيتها اللاهوتية إلا بعد القرن الثاني عشر ولكن الدين لم يتراجع كلياً من أوروبا وقد استمر في ظل التطرف السياسي والتطرف الفلسفي ولم يسلم من النزعات القومية وحروبها بين إعلان – نيتشه – عن موت الله وإعلان – ميشيل فوكو – عن موت الإنسان وشهد العالم كيف انتشرت في الشرق والغرب ثقافة الانغلاق على الذات بأنماط دينية وفلسفية في جميع القارات لتقع الأنسنة فريسة الجهل بمسألة الهوية من جهة وفريسة للحروب الأهلية والاستعمارية المضادة للقيم الإنسانية من جهة ثانية .

من المفارقات الساخرة أن يرفع الجلادون باسم الدين شعار أنسنة الدين بلغة مفرغة من أي مضمون تطبيقي في أرض الواقع المثخن بعنف التوظيف السياسي للدين في نزعة لا إنسانية مشابهة لشعار حقوق الإنسان الذي رفعه الغرب الاستعماري في حروبه الاستباقية والاستيطانية .

كذلك يبدو لي أن الحلقة المفقودة بين اتجاهات الإنسانية الدينية واتجاهات الإنسانية الإلحادية ليست باستحضار النزعة الإنسانية الكلية التي اقترحها المفكر المسيحي الكاثوليكي – جاك مارتن – بالتركيز على الله والإنسان معاً في ضوء تصحيح العلاقة بين نزعتين من الأنسنة :
إحداهما : تحترم الإنسان بمعيار التزامه بالدين .
وثانيهما : تحترم الإنسان بمعيار إنسانيته . 

والنزعة الثانية أقرب لروح النص القرآني الذي تحدث عن الكرامة الإنسانية المحضة بمعزل عن الدين , ولكنها أي – الحلقة المفقودة – هي في تجسيد الأنسنة بالعقل التواصلي الحواري الذي ينبغي أن يحكم علاقات الأسرة الإنسانية عن طريق الحوار لا عن طريق العنف والانفجارات الكبرى التي شهدها العالم إبان المرحلة الاستعمارية والحروب العالمية على حد تعبير الخطاب الفلسفي للحداثة للفيلسوف – يورغين هابرماس – 
وإذن جوهر الأنسنة الدينية بحسب الهداية القرآنية لا تستقيم إلا في ظل الحب والمحبة كما لا تستقيم إلا بالموت الشهيد انتصاراً لهذه المحبة لكن التدبر في النصوص المفسّرة لهذا الحب ستكشف زخم تحريف الأنسنة عن جوهرها وقد جنحت إلى العنف والتطرف خلافاً لنصوص التسامح وحرية المعتقد وعلى الرغم من التباين التام بين قيم الأنسنة القرآنية والخطاب العقدي المتشّدد في برامج الإسلام السياسي ستبقى القضية الأهم التي تطارحها الفقهاء والمتكلمون والمتصوفة هي في فهمنا لمرجعية هذه الأنسنة وابتداع شروطها المنافية للهدي القرآني الذي كشف عن عنصر الحرية الكاملة الممنوحة للإنسان على قاعدة وعي الإنسان لذاته من جهة وتأكيد خياراته في بنية تهذيبه النفسي والروحي بعقل يمارس رقابته على نفسه التي ألهمت فجورها وتقواها من جهة ثانية .

واللافت للانتباه أن الأنسنة في التفكير الديني تحقق معناها بسيرورة المجاهدة الطامحة للإمساك بحقائق الكون والإنسان . والمتصفح لبعض النصوص يلحظ أن مجاهدة الشر والظلم وحماية النفس من ظلمات الخطيئة تسعى دائماً في طلب الحرية المتصلة بطلب الحقيقة الكونية .
وها هنا نقف على نزعتين في التفكير الديني :
أحدهما : نزعة أيديولوجية تعتبر التعصب الديني شرطاً لحماية الأنسنة .

وثانيهما : نزعة إنسانية تعتبر التعصب الديني وتكفير الآخر خطراً يهّدد سلامة الدين وسلامة الأنسنة وفارق بين تطهير النفس مما يشوبها من نوازع البغي والشر لتتصل بمنابع الحب في قبول الآخر وبين من يكدر صفوها بالقطيعة ليستأثر باحتكار الحب الإلهي ومعرفته فتصبح الأنسنة عنده مشحونة بالعنف وتسفيه الآخر وإقصائه وتلك هي العقبة التي تضمر تأويل الشريعة وتؤجج سعير الأنسنة في صدام الدين مع ذاته وصدام الشريعة مع الأخلاق .

إن مركز اختبار الكمال والجمال في الأنسنة يدور مدار الارتباط بالمطلق وغايتها بلغة الإمام النفري : " ما جئت لهذا العالم إلا لأجد طريق العودة إلى الله مرة أخرى .. " . غير أن الطريق إلى الله سبحانه يتعدد بتعدد أنفاس الخلق وعند – أوشو – " فإن هذه الحياة تتدفق فيك مع كل نفس تنعش قلبك كل لحظة وكل آن .. فكن ناي الحياة يعزف لحناً إلهياً أبدياً يا صاحب المكان والزمان " . 

وإذن في متاهات الوعي الديني وأزمات المعرفة بالدين ستبقى صرخة القلب ضد الذين علمونا أن نعتقد بأننا مبصرون في حين كنا عميان جداً وضد الذين جعلونا نقدس الطقوس قبل أن نقدس الله في الإنسان وما تزال هواجس البحث في عولمة القيم الإنسانية أسيرة لبرامج التعليم الديني وعصبياتها المنافية للمشروع الإنساني الذي تحطم تحت أنياب تطرف الحداثة الغربية وعنفها المتوحش الذي ذهب بعيداً بتدمير الأنسنة كما لو أن ظاهرة التدين المتوحش في الشرق هو الوجه الآخر لظاهرة الحداثة المتوحشة في الغرب وهو الأمر الذي يتطلب مراجعات نقدية للخطاب الديني المعاصر والخطاب الفلسفي الحديث في واقع لا يريد أن يعترف وحتى اللحظة الراهنة بفقه المرأة والإنسان.
وهكذا نجد أن الواقع الديني الراهن يحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى لتأصيل مصطلح الأنسنة في التفكير الديني كما أن الوعي التطبيقي للدين سيظل مرهوناً بسؤال المعرفة والأخلاق من جهة وسؤال الدين من أجل الإنسان أم الإنسان من أجل الدين من جهة ثانية .