الغرب لم يعالج مشكلاته الدينية باعتماده على خطب ومواعظ المتكلمين باسم الدين فبادر إلى حلها بطرائق العلم والعقل
 

من الواضح أن الحوار الديني سيبقى مهدداً في رسالته وأهدافه إذا لم يقترن بتوفير أقصى درجات المناعة ولا سيما داخل المجتمعات التي تشكو عادة من هواجس الغبن والإجحاف والقلق على مصير خصوصيتها الثقافية والعقدية .

 وإذا كان الحوار هو الإطار الطبيعي لتحقيق مهمات هذه المناعة فإن تحصينها هذه المرة يجب أن يتصل بقيم الحياة الوطنية ومستقبلها المرهون بمدى نجاحها في الإقلاع عن ذهنيات التكفير والتخوين من جهة , والانتقال في معالجة المشكلات الاجتماعية من الوسائل الكلامية إلى الوسائل العلمية والعملية من جهة ثانية .

ولا يمكن توفير جهاز المناعة لحوارنا الديني بمجرد بيانات تصدر عن هذه المرجعية أو تلك , كذلك لا يمكن اختزال أزمة المشهد الحضاري للأمة بمجرد توصيفها في الهوة التي اتسعت بين درجة التقدم في الخطاب الطائفي ودرجة التخلف في معالجة المشكلات الناجمة عن طغيان هذا الخطاب نفسه وما أشبه هذه المفارقة بما قاله الغرب في بداية نهضته واصفاً حضارته بأنها حضارة عرجاء بلغت الأوج في المعرفة العلمية الطبيعية ونزلت إلى الحضيض في أخلاقها وعلاقاتها الإنسانية بكل ضروبها . 

غير أن الغرب لم يعالج مشكلاته الدينية باعتماده على خطب ومواعظ المتكلمين باسم الدين فبادر إلى حلها بطرائق العلم والعقل واستن لتلك الحلول قوانين وتشريعات وبرامج تضطلع بمعالجة الجانب الاجتماعي من علاقات الناس بعضهم مع بعض وانتهى إلى مفاهيمه التي نعرفها عن المواطنة والحرية والمساواة وحقوق الإنسان , فنجح الحوار الديني على أرضه فيما نحن على حالنا من ألف عام نريد أن نقاوم جراثيم المرض وجراثيم الفقر وجراثيم الجهل بكلام ما ينفك يسأل عن جدوى الحوار , وعن الحلقة المفقودة بين العلم الطبيعي والعلم الإنساني .

وما من شك في أن الحوار بوصفه قيمة عليا بذاته يشكل في هذه المرحلة الحرجة منطلقاً مهماً لتصحيح العلاقة بين الأديان وطوائفها المتعددة على قواعد الفهم المتبادل لحاجات الوفاق الوطني وضرورات العيش المشترك .

 وإذا كانت الانقسامات الدينية تزداد في شرقنا العربي يوماً بعد يوم فإن الحوار الديني في بعض برامجه يهدف إلى إعادة تقييم نتائج القطيعة وانعكاسها على واقع الفوضى التي وضعت مذاهبنا الدينية في مواجهة بعضها لتقترف وهي على شفير الهاوية أكبر خطيئة من خطايا تاريخنا الديني المعاصر , فإذا هو في ظلام يدور حول ذاته بلعبة اللامعنى من عبث التطرف والعنف والقتل العبثي باسم الدين .

ولم أجد تفسيراً لظواهر شحن النفوس بالغرائز الدينية وتصنيع بذور الفتن المتكررة على أرضنا الإسلامية الواحدة إلا إذا ربطنا إعادة إنتاجها بمشروعين اثنين :

أحدهما : أطماع التدخل الجانبي ومصالحه الاستعمارية ثانيهما : إفلاس النظام السياسي العربي وقصوره لجهة تشخيص مكامن الداء في عقله وتفكيره الذي يتعامى في واضحة الدمار عن أسباب فشله وهزيمته فيلجأ إلى شحن النفوس بشعارات التعصب للدين وإفرازاته المقيتة . 

وإذا كان الدين في صميم روحه هو الأخلاق فإن الحوار في صميم رسالته العلمية والعملية هو التماس الروابط التي تصل بين المختلفين لتجعل منهم أسرة أخلاقية متناغمة يحدوها الامتناع عن كل تضليل يسفك حرمة الإنسان وكرامته باسم الدين فيكون مصطلح المناعة هو مزيد من التقوى التي تربط القول بالفعل عند كل حديث عن تقوى الله في الفكر وتقوى الله في السلوك وتقوى الله في وحدة الأرض والوطن .

قال لي : أتذكر ما كتبه الفيلسوف العربي عن حياتنا الفكرية قبل ألف عام , وكيف كانت العقول الكبيرة لا تستقر بأصحابها في مكان بل تطوف في أرجاء الوطن العربي من أقصى غربه إلى أقصى شرقه باحثة عن أندادها لتتفاعل معها وتتعاون حتى ليصعب عليك في كثير من الحالات أن تحدد الموطن الأصلي لرجل الفكر منهم أين يكون ؟ إنه اليوم في قرطبة وغداً في القاهرة وبعد غد في دمشق .. ولم تكن تعوقه تأشيرة دخول في هذا البلد ولا تأشيرة خروج من ذلك البلد لماذا ؟ ببساطة يومها ومن ألف عام كانت دولة الفكر أمام المفكر واحدة , وآمة الدين من حوله واحدة , وأرض الوطن العربي كانت واحدة .