مداخلة سماحة العلامة الشيخ حسين أحمد شحادة في ندوة تحرير الخطاب الديني وأولوياته (مقاربة نقدية)
 

الخطاب الديني ليس هو  الدين ولكنه في واقع نشأته وملابساته هو رؤية بشرية للتعبير عن مفاهيم الدين وقيمه وصياغة تصوراته عن الوجود والحياة كذلك ولا يمكن الحديث عن محنة هذا  الخطاب وإخفاقاته من دون ان ينهض بمسؤلية النقد لذاته وهي مهمة تكاد تكون عسيرة مع نزوع هذا الخطاب الى الفوقية والتعالي على النقد بذريعة امتلاكه الحصري للحقيقة المطلقة.
ومن الواضح للمتأمل عميقا في تناقضات الخطاب الديني ان الباحث لا يملك تحديدا ثابتا لمرجعية هذا الخطاب ومصادر مكوناته المختلفة ولذلك يجب ان نبدأ من سياقاته الصراعية مع الاخر الديني أو السياسي ولا يمكن فهم إثبات هذا الخطاب لذاته من دون النظر للعوامل السياسية والتاريخية والاجتماعية التي رافقت بدايات تشكله وإنتاجه وأرخت بظلالها على طبيعة وظائفه وحدوده لاسيما مع بروز أنماط اشكالية ومستبدة من ظواهر التطرّف باسم الدين وطغيان خطاب التكفير والإلغاء على خطاب التسامح والحكمة ما يعني ضرورة ان نبدأ بمنهاج موضوعي لتعريف ما نقصده من مصطلح الخطاب الديني قبل اي حديث عن تحريره واستقلاله وأولوياته حيث يستمر السجال حول أولويات تحرير هذا الخطاب التحرير الثقافي أولا؟ باعتباره الضامن لحفظ الهوية والعقيدة المهددة بالاستلاب أم التحرير السياسي لإنقاذ الدولة والمجتمع من أنظمة التبعية والإرتهان للأجنبي؟ لينتهي المشهد عن تفجير الخلاف الإسلامي_الاسلامي حول تلك الأولويات وهو الطابع الذي ساد معظم أشكال هذا الخطاب وحركاته الدينية والسياسية من دون أن نلتفت إلى أن الخلل الذي يضرب البنية الإجتماعية في حياة الشعوب ويجعلها باستمرار ضحية الانقسامات المذهبية الحادة إنما يكمن في الخلل الذي يضرب منهج التفكير في النظر حول قضايا الحريات وحقوق الإنسان والانتقال بالخطاب الديني المسؤول من خطاب لغوي نظري وطائفي إلى خطاب مهموم بتحقيق العدل والتنمية والسلم الأهلي.
ربما يتعذر علينا في ارض الواقع المخترق من جميع جهاته تعريف الخطاب الديني المستقل ولا سيما في مديات ارتهانه لطواغيت المال والسلطة والسياسات التي احدثت في نسيجه وخلاياه عبر قرون من الزمن ما نراه الْيَوْمَ من قطيعة معرفية. داخل هذا الخطاب الضحية والجلاد في آن والذي لم يبدأ بعد بقراءة ثانية لتجاربه وإخضاعها للنقد الذاتي كما اسلفت ومن دون هذه المراجعة النقدية سيبقى حديثنا عن سؤال الخطاب الديني والمستقبل مؤجلا الى اجل غير مسمى كما لو ان العائق الذي يقف ضد نهوض هذا الخطاب هو الخطاب الديني نفسه.
وكي لا يفقد الخطاب الديني صلته بحاضره والمستقبل يجدر به ان يتحرر والى الأبد من ذهنية السيطرة والاستكبار على الناس بمنطق احتكار المعرفة بالدِّين وحسبان نفسه معيارًا للحق فيما الآخرون المختلفون عنه مجرد هوامش تابعة لمركزه السلطوي.
لا مستقبل لخطاب ديني يختار العزلة والانكفاء على ذاته ويرفض الاعتراف بحقائق التنوع والتعدد واحترام الاخر وقبوله الرحيم الملتزم بالحكمة والموعظة الحسنة في ضوء ايماننا الراسخ بحرية الاختلاف والمعتقد.
وهذا ما يؤكد على أن إعادة النظر بعلاقة الخطاب الديني بمجتمعه ومحيطه لا تستوي إلا إذا ترافقت بإعادة النظر في ظاهرتين:
 إحداهما: ظاهرة النفاق الديني السائد والمستشري خلف أروقة كثير من المتكلمين باسم الدين. 
وثانيهما : ظاهرة انعدام الثقة بفاعلية هذا الخطاب ودوره التوحيدي، وفي هذا يكمن التوتر الدائم في علاقة الفقيه بالمثقف السياسي وفي هذا أيضا ما يفصح عن بعض ثغرات هذا الخطاب الملتبس دائما بنوازع الصراع العبثي بين الديني والسياسي من جهة والديني _الديني من جهة ثانية كما لو أن الخطاب الديني يواصل تكرار محنته لسببين: أحدهما : لأنه عالق تحت سلطة الوجدان الشعبي التي تؤثر في صياغة خطابه بدل أن يؤثر بها .
وثانيهما: لأنه عالق تحت طغيان الواقع الديني المأزوم بين تدين أعمى وتدين متوحش ولا خيار لهذا الخطاب إلا أن يكبر إلى مستوى القضايا الكبرى لأمته بمسؤولية الفتوى ومسؤولية الكلمة ومسؤولية أن يكون صادقا مع ربه ومع نفسه ومع أمته في زمن الفوضى وتزوير الدين وتدمير القيم. 
نعم من الصعوبة بمكان إطلاق صفة الديني على خطاب تحكمه الاهواء التي لا تريد ان ترى من الدين الا ما يخدم مصالحها الفئوية والشخصية وقد ذهب التجني والافتراء على الدين باسم هذا الخطاب بعيدا في تحويل الخطاب الديني في بعض نماذجه الى مجرد وسيلة سياسية تحجب عنا الجانب الروحي والاخلاقي من رسالته.
وإذن يجدر بالخطاب الديني السياسي اذا كان يريد فعلا ان يذهب في إصلاح الدولة والمجتمع الى ابعد من طموحه في التربع على عرش السلطة ان يبدأ باصلاح نفسه فلا معنى لعمله السياسي ان لم يكن قدوة ومثالا نبيلا في كل ما يتعلق بحياتنا السياسية وفِي مقدمها احترام الكرامة الانسانية وحقوقها في العدالة والحريّة والتنمية ومن دونها سيكون هذا الخطاب اكثر بشاعة من الدكتاتور الجائر الذي يمتهن السياسة بلا دين.
ولكي يكون الخطاب الديني امتدادا لخط الأنبياء والرسل لا بد له ان ينبض فكرا وسلوكا بمهمات تطوير المؤسسات الدينية وإصلاحها وارساء مناهج الحوار فيما بينها على قاعدة الاعتراف المتبادل بحق التنوع والاختلاف فلم يكن التعدد الديني في عالمنا العربي سببا في تجزئته وانقساماته ولكن تحويل الاديان الى أسوار وقبائل تتغذى على النفي والنفي المضاد ستكشف للباحثين عن المدى العميق لإشكالية التلازم بين هذا الخطاب وقبائله الدينية المتناحرة ولا داعي للتذكير بالنتائج الكارثية التي انتهت اليها في التاريخ حروب التخوين والتكفير حتى انهارت تحت حرائقها أقدس منظومة تحمي الأمن الديني والأمن الاجتماعي والأمن القومي على مستوى المنطقة العربية كلها.
ومع اعترافنا بتلك الاستثناءات الجادة التي قامت على خطاب ديني وطني موحد هي في نظرنا الدائرة المضيئة والتي نرجو لها ان لا تتراجع تحت ضغط اوضاع الفتنة القائمة ومن اجل ان يؤدي الخطاب الديني دوره المبارك على عين الله ورضاه ضد عوامل التفكك والانهيار لا بد له من ترتيب أولوياته وتحريره من نقاط الضعف التي كسرت بوصلته وحرمته من التفكير في دراسة الصيغ اللازمة لحل المشكلات ومناهضة السلبيات التي تعترض طريق إيمانه بان ما يجمع مذاهبنا وطوائفنا الدينية اكثر مما يفرق وان الخطاب الديني الموحد لا يعني إطلاقا تذويب الفوارق وخصوصيات التمايز بين أدياننا ومن موقع دعوتنا الى تحرير الخطاب الديني من ذهنيات الانفراد والاستبداد أوجه ندائي الى هذا الخطاب بفتح جسور التواصل والتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني انطلاقا من شعورنا بضرورات التكامل بين الخطاب الديني والخطاب العلماني في إطار مشاريعنا الوطنية الجامعة حيث لا يمكن لأي فريق ان يزعم انه قادر وبمفرده على إنجازها والاضطلاع بأعبائها بمعزل عن مساندة الآخرين ومشاركتهم بملاحظة ان الخطاب الديني الموحد وهو يرسم لامته خطط الوحدة الوطنية المحسومة بحقائق التعدد لا يمكنه ان يقف موقف المتفرج ازاء خطرين يهددان الوطن في وجوده ووحدته وسلمه الأهلي احدهما خطر الاٍرهاب وثانيهما خطر الاحتلال ولا يمكن مواجهة هذين الخطرين الا بتمتين اواصر العيش الواحد واستنفار الوعي بالمسؤولية المشتركة لتحمل الأمانة في واجب الدفاع عن الوطن إنسانا وأرضا ومقدسات.
غير ان اجتراح رؤية مثالية لخطاب ديني موحد تفترض الإجابة عن بعض الأسئلة والهواجس التي يطرحها نقاد الفكر الديني . أولا :  كيف يمكن تجديد الخطاب الديني وتوحيده اذا لم يسبقه نقد لرؤية الخطاب وموقفه الإقصائي من الاخر المختلف او الاخر النقيض؟. 
 ثانيا : كيف يمكن انتاج معرفة جديدة وخلاقة بالدِّين؟ اذا لم يسبقه سؤال حول علاقة الخطاب بتراثه والتحديات التي تواجهه لابراز القيمة المعرفية للدين لا سيما وان الخطاب يواصل تكرار محنته لسببين: احدهما: لانه عالق تحت تأثير سلطة الوجدان الشعبي وعصبياته التي تؤثر فيه بدل ان يؤثر فيها. وثانيها:  لانه عالق تحت تأثير سلطة احتكاره للمعرفة الدينية ولذلك تراجع هذا الخطاب عن موقعه في التنوير ورأيناه في بعض المحطات الحرجة يستبدل لغة التقريب بلغة الشوارع الملتهبة بغرائز العنف والتطرف وبدل ان يكون الخطاب ضميرا لمجتمعه وحارسا لقيم الوعي والمعرفة والتوحيد مقابل الجهل والشعوذة وجدناه في لعبة الصراعات السياسية متورطا بتاجيج نار الفتن من حيث يريد او لا يريد
وبعيدا عن اخطاء الماضي وخطاياه التي قامت على ترسيخ التناقض والحواجز الوهمية بين مختلف الاتجاهات والتيارات الدينية التي ما تزال ترفع شعارات القطع الحاسم مع الاخر وإلغائه. فان الخطاب الديني الموحد يقف الْيَوْمَ امام مفترق من العقبات والصعوبات لا مفر من اقتحامها في مجالين اثنين احدهما : ترسيخ مباديء وقيم المواطنة الكاملة والمتساوية باعتبارها الضمانة الوحيدة لسلمنا الأهلي وثانيهما : تطوير مناهج التعليم الديني في حدود قيمنا الروحية والأخلاقية المشتركة على النحو الذي ينتزع منها ألغام الفتن والتطرف والامية والجهالات المتبادلة.

وإذا أردنا الْيَوْمَ ان نضع أيدينا على العوامل والاسباب التي أدت الى اخفاق الخطاب الديني الموحد وعجزه عن إنجاز تطلعاتنا الوطنية في السلم الأهلي فانه لا يكفي ان نحيل تلك الأسباب الى التدخل الأجنبي بل لا بد ان نلتمس عوامله وأسبابه داخل قفصين احدهما : قفص النظام الطائفي. وثانيهما : داخل البنية الفقهية والعقدية لهذا الخطاب حيث تبرز المفاهيم والأفكار الجاهزة لتعطيل النهج التوحيدي من هذا الخطاب وهو النهج الذي نصر على طرحه كأولوية لا بديل عنها ولا يمكن التمهيد التأسيسي لهذا النهج الا بتحرير الخطاب الديني نفسه من عنصرية حركاته السياسية وجدرانها المنغلقة.
من مشرق العالم العربي الى مغربه تميز الخطاب الديني في القرن الماضي بحيوية عقلية وعلمية أغنت وحدة صحوته ومقاومته لمشاريع التغريب والاستعمار القديم وما نرجوه من يقظة الخطاب الديني المعاصر هو استعادة هذه الصحوة وإطلاق وحدتها لا من اجل مقاومة الاحتلال الجديد فحسب بل من اجل القضاء على الحواجز والحدود المفرِّقة لابناء الأمة الواحدة
لا يجوز الحكم على الخطاب الديني وإطلاق التهم عليه بالعقم والتخلف طالما هنا أو هناك في رجاله مصلحون يعملون في دائرة الضوء الساطع من اجل تجديد هذا الخطاب وتحريره من التعصب المذهبي وتوظيفاته السياسية.
ولن يكون عسيرا على رجال التقريب والحوار اكتشاف الأزهار الجميلة في حدائق قيمنا الروحية المشتركة وفِي مقدمها قيم التوحيد والإخاء والتعاون على البر والتقوى في بناء الانسان الانسان.
لم يسلم الخطاب الديني الحديث من تأثير العولمة الثقافية والاقتصادية على مختلف اتجاهاته وتياراته كما لم يسلم قبل ذلك من ذهنيات محاكم التفتيش التي حجبت عن تطلعاته مقاربة عصر التنوير في الغرب الأوربي ومجادلته موضوعيا فيما اثاره من أسئلة جادة ومشروعة ازاء مشكلتين من اهم واخطر مشكلات هذا الخطاب
احداهما : مشكلة الانغلاق امام الطوفان الحضاري الجديد والنزول الى مقارعته بادوات قاصرة أو مقصرة عن مواجهة تحدياته
وثانيهما : مشكلة الركون والاستسلام لتبرير الامر الواقع حتى ولو كان زائفا فيما رأيناه من خطاب وعاظ السلاطين ورضوخهم الكامل لسلطة الامر الواقع واستبداده المتوحش.
وفِي ذلك نقف على الحلقة المفقودة بين خطاب التبشير وخطاب التجديد في ضوء ملاحظتنا اذا كان الخطاب الديني التبشيري قد اختصر مهمته كداع ومرشد الى ما كان فان خطاب التجديد يحاول ان يكون تأسيسيا ليلفتنا الى ما يجب ان يكون ولكن السؤال هذه المرة لماذا لم ينجح خطاب التبشير في مهمته ولماذا أجهض خطاب التجديد في كثير من تجاربه النوعية الجادة ؟
وإذا كانت بعض المدارس المؤثرة في تكوين هذا الخطاب وبنائه تعارض الاجتهاد والتجديد ولا تعترف بشيء من قيمة المعرفة المتخلقة خارج تلك المدارس ونصوصها فان المعضلة في توصيف بعض الخطاب الديني بالحي واتهام بعضه الاخر بالفشل والموات لم يكن ناجما عن اعتماد الخطاب الديني على نصوصه المقدسة وإنما بسبب تحجره وإقفال نصوصه التاريخية عن مواكبة الانسان الذي يكابد دائما علاقته بدينه في عالم متغير وهو الامر الذي أغرى نقاد الفكر الديني باتهام هذا الخطاب بالظلامية والجمود لانه بنظرهم لا يملك شيئا من ثروة المعرفة الا ماضيه الغابر يخاطب به حاضر الانسانية ومستقبلها بطريقة فظة وأسلوب عاجز حتى عن صياغة هذا الماضي بلغة موضوعية مقنعة بحيث يمكن القول ان أزمة الخطاب الديني في راهنه المعاصر ليست أزمة مضمون لا يلامس أسئلة العصر وقلقه فحسب وإنما هي أزمة المعرفة بالدِّين من جهة وازمة المنهج في فهمه وتفسيره من جهة ثانية.
وما من شك في ان انتشار الحركات التكفيرية في عواصمنا المفجوعة بتشويه الدين وانتحاره الحضاري قد بلغت ذروتها في الانحطاط والفساد والفوضى لنشهد معها اخطر ظاهرة من ظواهر تدمير القيم والاخلاق ما يدفعنا الْيَوْمَ اكثر من اي وقت مضى الى المناداة بوجوب تحرير الدين وخطابه من خناجر التدين الإرهابي على مدى ما نسمعه يوميا من مخازي الفتن ومذابح التكفير التي تغتال في واضحة النهار امالنا الواعدة بمشروع أنسنة الدين وتحديث فهمنا الإنساني لخطابه ورد الاعتبار لجوهرته الاخلاقية بوصفها الميزان الذي يجب ان نرفعه لنقول عن هذا الخطاب أو ذاك بانه خطاب ديني امين على وحي السماء والانبياء.
واذا كان الحب الالهي هو المثل الأعلى في دنيا المتكلمين باسم الدين فلا معنى - لدين - مغلق على نفسه ولا معنى لتدين تملكته الانانية فاوصد نوافذه في وجوه الباحثين عن الحقيقة.
 اذا أردنا للخطاب الديني ان يكون نابضا بالحب والرحمة وإذا أردناه ان يكون قرآنيا مفتوح العينين على احزان العالم وفواجع الارض فان اول تذكير قرآني لهذا الخطاب هو ان يكون قارئا وشاهدا بكلمة الحق ومجادلا بثبات وشجاعة من اجل حقوق الانسان في الحرية والكرامة بمنهاج صادق يرفع القناع عن المتاجرين باسم الدين ليكشف عما يستتر وراء بعض الشعارات الدينية والسياسية من جهل وظلم وفساد وتأجيج للفتن.