فكيف سيقوم الطائف من جديد لا بل كيف سيقوم البلد من جديد، هل على أساس الطائف نفسه أم على أساس طائف جديد يأخذ اسمَ مؤتمر تأسيسي وأين وكيف وبرعاية مَن وفي أيّ ظرف؟
 

البلد على حافة السقوط في «المأزق الكبير»، ويتبدّى هذا الخطر في الانقسام السياسي الحاد على القانون الانتخابي الذي يشكل المعبرَ المؤدّي الى هذا المازق، الذي قد تستحيل معه حلول وسطى، وحلول جزئية، وجوائز ترضية، وتبويس لحى، بل حلول ربما تكون قيصرية من النوع الذي قد تترتب عليه أثمانٌ من الصعب على البلد أن يحملها، ولا يملك أيُّ طرف سياسي مهما علا صوته ونفخ حجمه أن يتحمّل كلفتها ويدفع ثمنها.الآن وبعدما وُلدت الحكومة الجديدة، بدأ العدّ التنازلي ليوم الامتحان الكبير بتطبيق الوعد الأساس المتعلق بقانون الانتخاب، وفي الإمتحان يُكرَم المرءُ أو يُهان.

الوقت يضغط وليس مفتوحاً الى ما شاء الله، وها هو رئيسها سعد الحريري يطلق بعد ولادتها وعداً جديداً بالوصول الى هذا القانون في وقت قريب، ولكن متى، وكيف وعلى أيّ أساس؟

نُذُرُ المأزق تتبدّى من الآن في مشهدٍ متناقض وكأنه في حلبة عضّ اصابع؛ نصف المكوّنات السياسية يتمسّك بقانون الستين أساساً للانتخابات النيابية المقبلة ويرفض الذهاب الى قانون بديل تشكل النسبية كلّاً أو جزءاً منه، والنصف الآخر من هذه المكوّنات يرفض الستين ويرفض التمديد للمجلس النيابي الحالي ويرفض الذهاب الى انتخابات على أساس هذا القانون.

وما بين هذين النصفين يأتي فشلُ اللجنة التي تحرّكت في الأيام الأخيرة، سعياً الى إيجاد مساحة مشترَكة، تتيح الانطلاق منها لاختراق الحائط الإنتخابي والنفاذ منه الى صياغة توافق على صيغةٍ إنتخابية يسلّم بها الجميع.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: تنتهي ولايةُ المجلس النيابي الحالي في 20 حزيران 2017، ولنفرض أنّ القوى السياسية فشلت في إنتاج قانون جديد، ولنفرض أنّ الستين بقي وتعذّر إجراءُ الانتخابات على أساسه ورفض نصفُ اللبنانيين المشارَكة فيها، ولنفرض أنّ التمديد خيار استحال الوصول اليه، كلّها احتمالات قوية وواردة. فأيّ لبنان سيكون في 21 حزيران، وهل يستطيع أيٌّ من السياسيين أن يرسم صورة ولو تقريبيّة لما ستؤول اليه حال البلد اعتباراً من 21 حزيران؟

هناك مَن يقول بوجود حلٍّ سريع من شأنه أن يخرق «المنطق الرافض» في هذا الجانب، و»المنطق المرفوض» في ذاك الجانب، فيقول بأن يبادر أحد «النصفين» الى تنازل يرجّح فيه خيار النصف الآخر وينضمّ اليه، كأن يتراجع مؤيّدو الستين عن هذا القانون لمصلحة إعداد قانون جديد يكون للنسبية مكان فيه، أو يتراجع رافضو الستين ليؤيّدوه ويسلّموا به أمراً واقعاً.

وهناك في المقابل مَن يقول إنّ مثل هذا الحلّ مبنيّ على وهم، نتيجة تمترس القوى السياسية كلٌ خلف موقف متحجّر، فضلاً عن أنّ العقل السياسي السائد لدى البعض، وكما دلّت تجارب السنوات الماضية، لم يعوّد اللبنانيين على هذه الروح الرياضية!

بالتأكيد أمام هذه الصورة القاتمة، لن يدخل لبنان الى جنّة الأحلام السعيدة، بل الى واقعٍ مشوّه؛ دولة مع وقف التنفيذ، رئيس جمهورية مقيّد لا يستطيع أن يحكم وبلا ادوات تنفيذيّه لحكمه، لا مجلس نواب، ولا حكومة، مزيد من الشلل، مزيد من الهريان، مزيد من التهتّك السياسي والمؤسساتي. مزيد من النخر والتسوّس في جسد الإدارة، وضعف لا بل عجز عن إمكان بلوغ المسار الذي يمكن أن يؤدي إلى إنقاذ البلد.

لكأنّ لبنان في هذه الحالة يقدم طوعاً طلبَ انتساب الى دول المنطقة المهترِئة والتي تعاني حال تمزّق وتفكّك وتنتظر على رصيف أزمة المنطقة الى حين يُعاد ترتيب أنظمتها على أسس وقواعد جديدة.

وبالتالي يصبح السؤال عن مصير الطائف جدّياً، خصوصاً أنّ كلّ ما قيل في الآونة الأخيرة عن حماية الطائف يصبح كلاماً بلا أيّ معنى، ويسقط أمام حال الفراغ الخطير التي قد يشهدها البلد إن وصل الى 21 حزيران 2017 من دون مجلسٍ نيابي منتخَب على أساس قانون جديد.

فكيف سيقوم الطائف من جديد لا بل كيف سيقوم البلد من جديد، هل على أساس الطائف نفسه أم على أساس طائف جديد يأخذ اسمَ مؤتمر تأسيسي وأين وكيف وبرعاية مَن وفي أيّ ظرف؟

ذريعة مؤيّدي الستين لرفضهم أيّ قانون بديل، والنسبية على وجه الخصوص، لأنّ تركيبة بلدنا غير مؤهّلة لهذا النوع من القوانين، خصوصاً وأنّه يُحدث انقلاباً جذرياً في البلد، ويغلّب فئة على فئة ويذيب بعض المكوّنات لا بل يمحوها نهائياً. أي انّ الكبار يأكلون الصغار.

وعلى سبيل المثال السنّة إن خسروا بالنسبية في بيرون يمكن أن يعوّضوا في الشمال وأماكن أخرى، والشيعة إن خسروا في الجنوب يمكن أن يعوّضوا في البقاع والأمر نفسه بالنسبة الى القوى المسيحية الكبرى، فبمثل هذا القانون تخسر الطوائف الصغرى فأين تعوّض، فهل يعوّض الدروز مثلاً في السويداء؟

بينما رافضو الستين يرون النسبية خشبة الخلاص، ولو تمّ اعتمادها البلد يربح، والتركيبة النيابية ستبقى ضمن المناصفة الإسلامية المسيحية،فأكثر فريق إن خسر يمكن أن يخسر 3 الى 4 أو 5 نواب، وهذه الخسارة يربحها فرقاء آخرون، أي انّ حركة التغيير التي ستحصل ستكون جزئية، ولن تكون هناك «نفضة» حقيقية» للستاتيكو الموجود.

وبالتالي فإنّ المستميتين في الدفاع عن الستين هم كناية عن طبقة سياسية ترى فيه فرصة تاريخية لإعادة إنتاج ذاتها وتبذل المستحيل لتحصين نفسها، ولا تريد لمنظومة مصالحها ومكتسباتها التي يؤمّنها لها قانون الستين أن تتأثر أو تهتزّ، ولذلك تراها تعتمد المكابرة والتجبّر والإصرار على محاولة قطع الطريق على أيّ صيغة بديلة عن قانون الستين.

في رأي مؤيّدي النسبية أنّ فريق الستين يلعب حالياً اللعبة الأخطر من خلال محاولة فرض التمديد لهذا القانون الذي من شأنه أن يمدّد تلقائياً لتوازنات التعطيل الحاكمة، وبالتالي يمدّد أزمة البلد ويقدّم لها الوصفة المناسبة لانتقالها في لحظة مستقبَلية معيّنة الى لحظة الصدام الأكبر والأشد خطورة. على أنّ العلامة النافرة في هذا السياق، تتبدّى في أنّ هذا الفريق يخيّر لبنان واللبنانيين بين الستين والحائط، مفترِضاً أنّ على الآخرين أن يختاروا الستين كأهون الشرَّين.

وإذا كانت القوى السياسية المختلفة على القانون الانتخابي لا يبدو أنها قادرة على بلوغ قواسم انتخابية مشترَكة، فهناك مَن يرى أنّ الكرة تُلقى تلقائياً الى الحضن الرئاسي وتصبح المبادرة في يد الرئيس ميشال عون.

فرئيس الجمهورية كما يعلن دائماً، لم يأتِ الى الحكم من خلفيّة شعاراتيّة، بل هو آتٍ من خلفية تغييرية إصلاحية، وأعاد في خطاب القسم تثبيت هذه الخلفية وألزم نفسه بمجموعة مواقف ومبادئ، ويقول المقرّبون منه أنه «معروف عنه أنه لا يتراجع عمّا يلتزم به».

لذلك من الطبيعي أن يسير رئيس الجمهورية بالمنحى التغييري مهما كلّف الأمر، ولن يراعي مَن هو مصرّ على إحراق الفرصة المتاحة لإعداد قانون انتخابي جديد حدّد عون نفسه مواصفاته بقانون عادل يعيد ترتيب البلد على أسس جديدة تؤكد سلامة التمثيل للجميع.

وفي رأي هؤلاء أنّ عون، وتبعاً لما ألزم نفسه به في خطاب القسم، يرفض أن يُسقِط نفسَه في فخّ تأييد مفاهيم ومواقف وطروحات متحجّرة كالتشبّث بالستين، بل من الطبيعي أمام حالة الانسداد الحالية، أن يكون رئيس الجمهورية من موقع مَن يملك الأهلية وموقع الراعي الوطني الحامي للدستور وللميثاق وللشراكة، هو المبادر الى محاولة الترجمة الجدّية لفرصة إعداد القانون الموعود وقبل نهاية ولاية المجلس النيابي الحالي. خصوصاً أنّ تفويت هذه الفرصة يذهب بكلّ الشعارات التي أطلقت في بداية العهد الرئاسي الجديد، وربما بأكثر من الشعارات الى العهد نفسه.