لبنان يقترب من الانفجار. براميل البارود الاقتصادية والمعيشية والأمنية والسياسية سلمت فتائلها حتى الآن من النيران التي بات الكل يهوى اللعب بها، من رئيس الجمهورية وصهره المصرّين على تحقيق انتصار وهمي فوق أنقاض بلد مهدّم، مروراً بسعد الحريري الذي باتت سردية الاعتذار التي يكرّرها معزوفة مملة وممجوجة، وصولاً إلى مجموعة الزجالين، التي لا تزال ترقّع وتفتّق وتراوغ في كافة القضايا الحساسة، بما في ذلك قضية انفجار المرفأ والتباساتها المتجدّدة، والهموم الحياتية من دواء وغذاء ووقود وكل ما يتصل بالأساسيات.

كلهم يعلبون بالنار، عن قصد أو عن غير قصد. وحدها العناية الإلهية ما زالت تُبعد الشعلة عن براميل البارود المنتشرة على امتداد الوطن، من أدناه إلى أقصاه، ولكن إلى حين!


لم يعد لبنان مجرّد دولة فاشلة. لقد تجاوز هذا التوصيف بكثير منذ اللحظة التي لم يعثر فيها اللبنانيون على حبة دواء، أصلي أو «جينيريك»، وبات ملاذ المحظوظين منهم مجرّد حقيبة سفر محمّلة بأدنى مستلزمات الحياة، التي باتت أقرب إلى الذهب والياقوت والمرجان في ندرتها.


حين ينفجر برميل البارود، لن يكون من حق أحد أن يلوم رجلاً يصبّ غضبه المختزن على محل تجاري أو صيدلية أو فرن أو محطة وقود، ولن يكون من حق أحد أن يلوم شاباً يعيش مرارة الذلّ والإحباط حين يرمي بحجر أو حتى قنبلة مولوتوف على مرفق حكومي أو على بيت مسؤول، أياً كان هذا المسؤول، وأياً كان القصد من وراء هذا الفعل.


لم تعد القضية مجرّد ثقة مفقودة بين المواطن ودولته، كما كانت سردية ميشال عون الشهيرة بعد هبّة 17 تشرين الأول. لقد باتت جريمة موصوفة ومكتملة الأركان تُمارس ضدّ شعب بأكمله، سواء في دوائه أو لقمة عيش أبنائه أو في أدنى مستلزمات حياته، التي بات توافرها مربوطاً بإيقاع سعر صرف الدولار الأميركي المتفلّت؛ أو حتى في حقه في معرفة حقيقة الويلات التي انزلتها تلك الطبقة السياسية - ولا يمكن ان يستثنى منها أحد بعد كل ما جرى - بدءاً بلفلفة كل ملفات الفساد التي لا خيمة فوق رأس أي مسؤول فيها، وصولاً إلى تسويف التحقيقات في جريمة العصر - انفجار مرفأ بيروت.

 

من يحذّرون الغرب بموجات الهجرة في حال انهار لبنان، ينكرون حقيقة أنّ سنوات الحرب السورية جعلت أيّ حدود محصّنة من موجات كهذه، ما يعني أنّ الانهيار لن يكون على هذا النحو التقليدي. الكارثة لن تكون بقوارب الموت التي باتت مجرّد ابتزاز رخيص لدى الأنظمة الفاشلة، بل ستكون بجهنم وطنية، سبق لميشال عون نفسه أن بشّر اللبنانيين بها، حين سُئل إلى أين نحن ذاهبون في حال لم تتشكّل الحكومة.


الكارثة الأكبر أنّ من يُفترض أو يُعتقد أنّه القائم المعنوي الأول على شؤون البلاد والعباد، أو بالحدّ الأدنى صاحب القسم الرئاسي المتضمن مبدأ الحفاظ على الوطن اللبناني، هو نفسه من يعطّل الفرصة الوحيدة للحل، خدمة لأهداف فئوية لم تعد خافية على أحد، في وقت تتبارى الحاشية البرتقالية على ادّعاء العفّة الوطنية والدستورية، وتمعن في الكذب على لسان رئيس تيارها، حين يحاول الإيحاء بتمسّكه بسعد الحريري فيما الواقع يؤكّد، بما لا يحمل الشك، أنّ ثمة فيتو من قِبل سيد العهد وصهره المصون على التكليف، الذي، وللتذكير، جاء من قِبل نواب الأمة.


ما سبق لا ينفي مسؤولية الحريري عمّا يجري. لا يمكن تناسي أن رئيس الحكومة المكلّف، شأن كل رموز الطبقة الحاكمة، يتحمّلون قسطهم من المسؤولية تجاه كل ما جرى في لبنان، وهو متهم من قِبل من لا يريدون بأنّه لا يزال حتى اليوم يناور من خلال معزوفة الاعتذار، ليكرّر بذلك النهج العوني الشمشومي نفسه «عليّ وعلى أعدائي».

 

هكذا يريد الكل الإمعان في إشعال النيران، حتى وإن طالته قبل غيره. هي دائرة العبث التي تجعل رئيس الجمهورية يتحدث اليوم عن اجراء الانتخابات البرلمانية في موعدها (ربيع العام 2022)، مفترضاً أنّ لبنان، الذي نعرفه اليوم، سيستمر كما نعرفه حتى ذلك الوقت!


لقد فاض كيل الشعب، وإذا كانت بعض المساعدات وحفنة من الدولارات الطازجة الآتية من أقربائه وأصدقائه في الخارج، ما زالت تشكل صمّام الحماية من انفجار غضبه، فإنّ هذه الحال لن تطول، خصوصاً حين يجد أنّ كل ما يستحصل عليه لا يكفيه خبزاً.
الآفاق باتت مغلقة، وكلما مرّ الوقت ازداد الخناق. قمة العبثية أن يحاول سعد الحريري اليوم إقناع ميشال عون بتشكيلة حكومية، يدرك سلفاً أنّها ستكون مرفوضة طالما أنّها لا تضمن له ولصهره الثلث المعطّل والاستحواذ على الحقائب الوزارية؛ وقمة العبثية أن يغامر سعد الحريري بإعلان اعتذاره عن تشكيل الحكومة، طالما أنّ لا شخصية سنّية ستجرؤ على حمل كرة النار، ليس لاعتبارات طائفية ومذهبية فحسب، وإنما لإدراكها أنّ العِقد ستظل كما هي بين بعبدا وميرنا الشالوحي.


انّها ويلات وطن، التي لو كان روبرت فيسك لا يزال حياً بيننا اليوم، لكتب مقدمة الجزء الثاني من تراجيديته اللبنانية، التي لن يطول الوقت حتى نعيش فصولها!