لم يكن ينقص عبثية المشهد اللبناني سوى تغريدة من وزير دفاع العدو بيني غانتس، يعلن فيها عن تواصله مع «اليونيفيل» لتقديم مساعدات «انسانية» إلى اللبنانيين، بعدما ذرف دموع التماسيح على جوعهم!
 
التغريدة هي دليل آخر على التراجيديا التي جعلت سمعة لبنان على لسان العدو قبل الصديق. فإذا كان من الطبيعي أن يتحيّن العدو أية مناسبة لدعائيات تجمّل جرائمه المتواصلة بمساحيق «انسانية» مغشوشة، أو ربما يتحيّن أية فرصة لتكرار ما قام به قبل أربعة عقود، تحت عنوان «الجدار الطيب»؛ فإنّ ما هو غير طبيعي ألّا تحرّك مثل هذه الإهانة ساكناً لدى معطّلي الحلول، التي من شأنها أن تفتح كوّة يدخل منها بصيص أمل، أو بالحدّ الأدنى قشة يتمسّك بها اللبنانيون الغارقون في بحر الرمال المتحركة.

 

«الإنفجار الاجتماعي على مسافة أيام»... قالها حسان دياب مجدداً بالأمس، وهو يرثي حال اللبنانيين الموزعين بين طوابير محطات الوقود، باحثين عن صفيحة بنزين ولو على السعر المعدّل، وبين الصيدليات لاهثين وراء حبة دواء وعلبة حليب لأطفالهم، وبين الأرفف الفارغة في المحلات التجارية، وهم يحاولون تأمين الحدّ الأدنى من قوتهم وابنائهم.

 

التوصيفات البكائية التي برع حسان دياب لغوياً، كعادته، في ابتداعها، ليست سوى تكثيف لما يقوله أي لبناني اليوم، لا بل إنّ الغضب الذي يختزنه المواطن أقوى بكثير من مجرّد عبارات خطابية... لقد وصل اللبناني حرفياً إلى واقع بات معه «عايش من قلّة الموت»!

 

يكفي النظر هنا إلى أحدث تقريرين متصلين بالأزمة الاقتصادية اللبنانية، الأول هو خلاصة دراسة أجراها مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية بيروت، وخلص إلى أنّ التضخم غير المسبوق في أسعار المواد الغذائية الأساسية سيجعل 72 في المئة من الأسر في لبنان تتعسر في تأمين طعامها.

 

وفقاً لهذه الدراسة، فقد سجَّلت أسعار السلع الأساسية التي تحتاج إليها الأسر ارتفاعاً ملحوظاً في الأسبوع الأخير من شهر حزيران، بناءً على جداول أسعار وزارة الاقتصاد. وفي متابعة لأسعار بعض هذه السلع يمكن تبيُّن الارتفاعات الكبيرة في كلفة الغذاء والحاجات الأساسية. فقد ارتفع سعر زيت دوار الشمس بنسبة تخطَّت 1100 في المئة منذ صيف 2019، أي قبل حدوث الانهيار المالي والاقتصادي، فيما ارتفع سعر لحم البقر 627 في المئة، والأرز العادي 545 في المئة. أما سعر البيض فقد ارتفع 450 في المئة، وتضاعف سعر اللبنة 275 في المئة.

 

ووفقًا لمحاكاة لأسعار المواد الغذائية في حزيران 2021، فإنّ وجبة غداء أو عشاء عادية مكوَّنة من سلطة وحساء وطبق أساسي (أرز ودجاج)، لأسرة مكونة من 5 أفراد، باتت كلفتها تُقدَّر بـ 71,000 ليرة لبنانية يوميًّا، من دون احتساب أيِّ نوعٍ من أنواع الفاكهة أو كلفة المياه والغاز والكهرباء ومواد التنظيف.

 

وبناءً على هذه التقديرات، فمن المتوقَّع أن تنفق الأسرة نحو 2,130,000 ليرة لبنانية على وجبة رئيسية واحدة خلال شهر واحد، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف (3,16) الحدّ الأدنى للأجور تقريبًا. عندها وبأقل تقدير، ستجد أكثرية الأسر في لبنان (72 في المئة) -التي لا تتعدَّى مداخيلها 2,400,000 ل.ل. (مليونين وأربعمئة ألف ل.ل.) شهريًا- صعوبة في تأمين قُوتِها بالحدِّ الأدنى المطلوب، استنادًا إلى أرقام دخل الأسر، بحسب تقرير إدارة الإحصاء المركزي لعام 2019.

 

أما التقرير الثاني، فصادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، وفيه أنّ الأطفال في لبنان يعانون من وطأة أحد أسوأ الانهيارات الاقتصادية في العالم في الآونة الأخيرة، حيث أدّت الأزمات المتتالية التي تضافرت في تكوين الأزمة الكبيرة، بما فيها الإنهيار الإقتصادي الكامل، الى جعل الأسر والأطفال في لبنان في حال يُرثى لها، وأثرّت تقريباً على كل جانب من جوانب حياتهم، وذلك في ظلِّ شحّ الموارد وإستحالة الوصول واقعياً الى الدعم الإجتماعي.

 

ويخلص التقرير، إلى أنّه في ظلِّ عدم وجود تحسّن في الأفق، فإنّ المزيد والمزيد من الأطفال يذهبون إلى فراشهم ببطون خاوية. وتتأثر صحّة الأطفال ومستوى تعليمهم وكل مستقبلهم، فالأسعار تحلّق في شكل هائل، ونسبة البطالة تستمر في الإرتفاع. ويزداد عدد الأسر في لبنان التي تضطرّ الى إتخاذ تدابير التأقلم السلبية لتتمكن من الصمود، كإلغاء بعض وجبات الطعام توفيراً لثمنها، أو إرسال أطفالهم الى العمل - غالباً في ظروف خطرة - أو اللجوء الى تزويج بناتهم القاصرات، أو بيع ممتلكاتهم.

 

بعيداً من توصيفات الانهيار، فإنّ أخطر ما ورد في خطاب حسان دياب بالأمس هو الإشارة إلى أنّ «الكارثة الكبرى تتجاوز تداعياتها أية قدرة على الاحتواء»، وأنّ «الخطر الذي يهدّد اللبنانيين لن يقتصر عليهم، فعندما يحصل الارتطام الكبير، سيتردّد صدى تداعياته خارج جغرافيا لبنان إلى المدى القريب والبعيد، في البر والبحر. ولن يستطيع أحد عزل نفسه عن خطر انهيار لبنان».

 

بهذا المعنى، فإنّ لبنان ينضمّ اليوم إلى نادي الدول الفاشلة، التي غالباً ما تحاول تصدير أزماتها إلى الخارج، عبر استحضار رهاب اللاجئين المتدفقين إلى دول الرخاء (النسبي)، ناهيك عن رهاب المخاطر الأمنية المترتبة على ذلك، وهو ما يعني أنّ لبنان قد دخل بالفعل في مرحلة لم يعد يستطيع معها حتى ابتزاز الخارج من موقع القوة عبر هذه الورقة، كما يفعل رجب طيب إردوغان على سبيل المثال... وإنما مجرّد التسوّل الذي يدرك القاصي والداني أنّ مخرجاته لن تكون سوى محاولات لـ»الاستجابة الانسانية»، طالما أنّ الدعم الاقتصادي مقترن بترياق يرميه السياسيون تحت أقدامهم، وهو تشكيل الحكومة الجديدة.

 

هكذا يجعل المعطّلون - ولنسمّهم بالاسم: رئيس الجمهورية وصهره - شعباً بأكمله، ومعه مئات آلاف اللاجئين والنازحين، وقوداً لطموحات سياسية وحروب الغاء عبثية، تارةً تحت مسمّى «صلاحيات رئيس الجمهورية»، وتارةً أخرى تحت شعار «حقوق المسيحيين»، وطوراً تحت عنوان «الثلث الضامن»، الذي باتت وظيفته واضحة، ولا لبس فيها، وهو عرقلة أيّ مشروع حل في لبنان، طالما أنّ هذا الحل لا يلبّي أحلام الرئاسة الباسيلية، التي باتت اليوم مجرّد وهم، آخذاً في الحسبان التشكيك باحتمالية بقاء لبنان، ككيان ودولة، حتى موعد انتخابات الرئاسة بعد عامٍ ونيّف.

 

لا يمكن فهم الطريقة التي يفكر فيها فخامة الجنرال وصهره. أهو جنون العظمة الذي يظنان فيه أنّهما محصّنان من المسؤولية الأخلاقية والإنسانية في هذه الجريمة المرتكبة بحق الشعب؟ أم انّها حالة الانكار التي تجعلهما يغمضان أعينهما عن الإذلال اليومي الذي استنزف اللبنانيين؟ أم انّها الشيزوفرينيا التي تجعل صاحبها يستمتع بآلام الآخرين؟

 

على المنوال ذاته، لا يمكن فهم الطريقة التي يفكر فيها سعد الحريري. صحيح أنّ الرجل قدّم ما أمكن من تنازلات، وبدا أكثر انفتاحاً على المبادرات السياسية للتشكيل الحكومي، ولكنّ معزوفة الاعتذار التي باتت على لسان مصادر الرئيس المكلّف، تشكّل بدورها، إن تحققت، قفزة في الهواء فوق فوهة بركان يغلي بالعصبيات الطائفية والمذهبية التي يغذيها الانهيار نفسه.

 

قبل أيام، سُئل مصدر ديبلوماسي، يستعد لمغادرة لبنان بعد انتهاء خدمته، عن آفاق المستقبل. إجابته كانت معبّرة للغاية: لقد دخل لبنان بالفعل في مرحلة الانهيار... وأما المستقبل فلن يكون سوى ذكرى جميلة لبلد كان يمكن أن ينهض، كما فعل من قبل، ولكنّ القائمين عليه فوّتوا الفرصة نهائياً!