من أين يمكن إخراج لبنان من الوضع الشاذ الذي جعله يُحكَم بلا دستور ولا نظام بل بما يشبه شريعة الغاب، خصوصاً بعد تعليق جلسات الحوار وربما لاحقاً جلسات مجلس الوزراء ومجلس النواب؟ هل بالتوصل الى اتفاق على انتخاب رئيس للجمهورية؟ ولكن أيّ رئيس ولأي جمهورية إذا ظل السلاح خارج الدولة أقوى من الدولة. هل باجراء انتخابات نيابية قبل انتخاب الرئيس أو بعد انتخابه؟ ولكن على أساس أي قانون يكون مقبولاً من القوى السياسية الأساسية في البلاد فلا يظل كل طرف يحاول تفصيله على قياسه ليضمن الفوز بالأكثرية النيابية التي تجعله يحكم بها والأقلية تعارض؟ وهل تقبل الأقلية أن تحكمها الأكثرية حتى وإن كانت منبثقة من انتخابات نيابية حرة ونزيهة، خصوصاً إذا ظلّ يقودها حزب مسلح قد لا يعترف بهذه الأكثرية ويعتبرها مرة أخرى أكثرية نيابية وليست أكثرية شعبية، وهو الموقف الذي كان قد اتخذ من نتائج انتخابات 2005 و2009. واستطاع السلاح أن يفرض رئيساً للجمهورية من خارج أكثرية تلك الانتخابات وتشكيل حكومة تتمثل فيها الأكثرية والأقلية التي أخذت تتحكم بقرارات الأكثرية من خلال بدعة "الثلث المعطّل"... هل يكون الخروج من المأزق بتشكيل حكومة وحدة وطنية تتمثل فيها كل القوى السياسية وتتألف بعد انتخاب الرئيس أو بعد الانتخابات النيابية، وهي حكومة جرّبها لبنان أكثر من مرة فكانت فاشلة لأن لا وحدة بين أعضائها المتخاصمين والمتشاكسين، أم بتشكيل حكومة إنقاذ من أقطاب تستطيع إخراج لبنان من وضعه الشاذ؟

إن كل هذا يدل على أن لبنان لم يعد في أزمة حكم بل أصبح في أزمة نظام أراد بعض من لا يؤمن به إسقاطه بإثبات فشل الاستمرار في تطبيقه وذلك بافتعال أسباب تؤكد هذا الفشل. ولأن هذا النظام لم يحقق طموحات الطامعين بالرئاسات راحوا يبتدعون أنظمة لا نص دستورياً لها علّها تحقق هذه الطموحات. فالدستور قال صراحة بالتئام مجلس النواب فوراً لانتخاب رئيس للجمهورية قبل أي أمر آخر، لكن من لا يفهمون الدستور راحوا ينادون تارة بانتخاب رئيس للجمهورية مباشرة من الشعب، وطوراً باجراء انتخابات نيابية قبل الرئاسية ظناً منهم أن نتائجها قد تأتي لمصلحتهم فيتحقق حلمهم المزمن بالرئاسة. وعندما لم يجدوا ما يبكون أو يتباكون عليه، راحوا ينعون "الميثاقية" التي لم تحقق المشاركة الفعلية، ويطالبون باستعادة حقوق المسيحيين، وينسون أو يتناسون أنهم بتعطيلهم انتخاب رئيس للجمهورية، وهو أعلى منصب للمسيحيين في الدولة وتحديداً للموارنة، يكونون هم من أخلّوا بالميثاق ويمنعون استعادة الحقوق للمسيحيين.
لذلك، فإن السؤال المطروح ولا جواب عنه نظراً الى انقسام القادة في لبنان لأسباب مصلحية ذاتية أو خدمة لخارج، هو: من أين يبدأ اخراج لبنان من أزمته الحادة ومن وضع شاذ لم يعد مقبولاً؟ هل بانتخاب رئيس للجمهورية أولاً، وهل هذا وحده يشكل حلاً إذا لم يسبقه أو يتزامن معه اتفاق على قانون للانتخابات يكون عادلاً ومتوازناً ليتحقق التمثيل الصحيح لشتى فئات الشعب وأجياله، وما لم يتم اتفاق على الحكومة التي ينبغي تأليفها بعد انتخاب الرئيس أو بعد الانتخابات النيابية التي ينبثق منها مجلس نيابي شرعي ويمثل إرادة الشعب الحرة تمثيلاً صحيحاً، فإن انتخاب الرئيس من دون الاتفاق مسبقاً على كل ذلك قد يضع الرئيس وهو في مستهل عهده أمام سلسلة أزمات ومشكلات قد لا يستطيع حلها، خصوصاً إذا بقي القادة على انقسامهم الحاد حول كل شيء ولأسباب شتى، فلا يكون انتخاب الرئيس عندئذ حلاً بل بداية مواجهة مشكلات يتعذّر عليه حلها إلا بتدخل خارج يفرض على الجميع وقد لا يكون في مصلحة احد. وهل يكون أخيراً "النظام الفيديرالي" هو الحل، أم تكون اللامركزية الادارية الواسعة هي الأكثر قبولاً لأنها تنهي الصراع بين القوى السياسية الأساسية في البلاد على السلطة المركزية وتنقله الى سلطات اللامركزية التي يكون للشعب فيها الكلمة الفاصلة والحاسمة على مستوى حدود كل لامركزية وليس على مستوى حدود كل لبنان فتضيع سياسياً وحزبياً ومذهبياً ومناطقياً، وتفقد عندئذ وزنها وقدرتها على حسن الاختيار والمحاسبة؟
إن المطلوب الاتفاق على من أين نبدأ لإنقاذ لبنان.