مع أن محسن الحكيم لم يكن يحمل برنامجًا سياسيًا واضحًا ولم يكن يؤمن بالنظام الديمقراطي الغربي ولا بنظرية ولاية الفقيه (في آن)، إلا أنه كان يعتقد بإمكان قيام الفقيه الشيعي بدور الزعامة الدينية، والقيام بدورٍ ما في الحياة الاجتماعية، من دون أن يعني ذلك تسييسًا وتحزيبًا لوظيفته الدينية[1].

انقسمت حاشية السيد محسن الحكيم في شأن العمل السياسي فريقين: فريق يؤمن بضرورة العمل والتنظيم والدخول بقوة في الحياة السياسية، كابنيه محمد مهدي ومحمد باقر ومعهما السيد محمد باقر الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله، وفريق آخر يؤمن بنظرية الانتظار وتجنب السياسة، والاقتصار على الشؤون الدينية، كابنه السيد يوسف الحكيم والشيخ حسين الحلي (مدير مكتب الفتوى عند السيد الحكيم) والشيخ محمد الرشتي (مدير المكتبة العامة للحكيم).[2] وكان للسيد محسن الحكيم الدور الأكبر في تشكيل جماعة العلماء في النجف الأشرف (1958)[3] ثم جماعة علماء بغداد والكاظمية (1964) وهما كانتا الإطار التنظيمي لعمل مجموعة الإصلاحيين من علماء العراق الشيعة في ذلك الزمن ودخولهم حلبة السياسة الوطنية والعربية[4]. وصدر عن السيد محسن الحكيم رأي مميز في معنى السياسة يقول فيه: "إذا كان معنى السياسة إصلاح شؤون العباد والعمل على ترقية أحوالهم واستصلاح أمورهم... فلم يأت الدين الإسلامي المقدس إلا للقيام بهذه الأمور، ومن الطبيعي أن من واجب رجال الدين القيام بها بكل ما أوتوا من قوة وقدرة. كما أن اللازم عليهم السعي في تطبيق هذه الواجبات على الكل على حد سواء"[5].

 

1-محسن الحكيم والسعي إلى إقامة الحكم المدني

في معرض تبريره عدم الدعوة إلى الانخراط الجماهيري في الاستيلاء على السلطة في العراق، عرض السيد مهدي الحكيم مقاربة والده لموضوع الحكم المدني في العراق فكتب:"قسمٌ من الناس يقولون إن الظرف الموضوعي لمرجعية السيّد الحكيم كان مناسبًا من أجل التحرك لتسلم السلطة في زمن عبد الرحمن عارف، وفي الواقع فإن هذه النظرة مبالغ فيها، صحيح أن حكم عبد الرحمن عارف كان ضعيفًا وهي أضعف فترة مر بها الحكم في العراق، ولكن هذا لا يعني أن هناك قدرة لتسلم الحكم، فلو كان الحكم مدنيًا لكان ممكنًا أن يتحرك الإنسان على الصعيد المدني، ولكن العمل كان عملًا عسكريًا، والعسكريون هم الذين جاؤوا بعبد الرحمن عارف وهم الذين انقلبوا عليه، ومع ذلك ففي ذلك الوقت (بعد مقتل عبد السلام) قلت لـ (عبد الرحمن البزاز[6]) بأمر من السيّد الحكيم إن هذه فرصة وإن عبد السلام عارف مات فليكن هناك حكم مدني وتشكيل مجلس قيادة من ثلاثة أشخاص ونحن مستعدون أن نوافق على أن تكون واحدًا منهم، ولكنه لم يقبل وتردد. إذًا الحكم كان عسكريًا وإن كان ضعيفًا، ولو خرجت تظاهرة فما الفائدة والجيش وقادته كلهم في الاتجاه الآخر، كما أننا لم نكن نملك وجودًا عسكريًا. وكان عندنا في الواقع عمل سياسي دؤوب، وصلات مع جماعات سواء كانت (سنية) أو (شيعية) أو (عربية) أو (كردية)؛ كان همنا حينذاك أن يأتي حكم مدني نتخلص به من الحكم العسكري وهذه خطوة كنا نعتقدها ضرورية، وأن الحكم المدني يعطي شيئًا من الحريات للناس. وكان ذلك مطلبًا ننادي به من دون إثارة أي حساسية. وكنا نتصور أنه لو أعطيت لنا القليل من الحرية فسوف نستطيع من خلالها أن نستفيد لبث وجود حقيقي، بينما في ظل الحكم العسكري فليس من الممكن أن نقوم بعمل ما إلا العمل العسكري، والعمل العسكري لم يكن مهيَّأ لنا،  وأكد واقع الحوادث ذلك من خلال موقف الناس فقد لاحظتم أن نحو نصف مليون إنسان قد شيعوا (السيّد الحكيم) وهؤلاء النصف مليون جميعًا أظهروا استياءهم من السلطة فأين كانوا حينما كانت المواجهة محتدمة بين السيّد والسلطة؟ وعلى صعيد الجهد المبذول لإقامة الحكم المدني أذكر أننا (أنا) و(السيّد مرتضى العسكري[7]) اتصلنا مع جماعة البزاز ومع الأكراد، ودار النقاش حول شكل الحكم الذي نريده فكان قسم يقول نريد (حكمًا ديمقراطيًا) وكنا نحن نقول نريد (حكمًا برلمانيًا)، ثم وصلنا في نقاشاتنا إلى الجانب الاقتصادي، وكان (عبد الرحمن البزاز) وجماعته يدعون إلى الاشتراكية، أما أنا فقد كنت أقول لهم، نحن لا نقول بالاشتراكي ولا الرأسمالي ولا أي شيء وإنما يجب أن يدرس الواقع الموضوعي للشعب العراقي، ونحن نؤمن بأن الاقتصاد يجب أن يقسم إلى قطاعات ثلاثة، قطاع مستقل وقطاع حكومي وقطاع مشترك، ونؤمن أيضًا أنه يجب وضع تحديد كامل لكل واحد من هذه القطاعات بشكل لا يقبل معه التغيير بسهولة"[8].

إذًا حكم مدني أيبرلماني بحسب شهادة ابن السيد الحكيم، ولا تطرق إلى مسألة الديمقراطية...

ولتأكيد هذه الفكرة نذكر جواب محسن الحكيم عن سؤالٍ وجهه إليه مرتضى العسكري عن نوع الحكم في حال أمكن تأليف حكومة إسلامية، فأجاب: "نسأل أهل الخبرة عن أفضل نوع حكم يُقام ونقرر ذلك"[9]. وعلى الرغم مما حظي به السيد محسن الحكيم من إجماع شيعي، مع وجود مرجعيات أخرى مثل الشيخ مرتضى آل ياسين، الأمر الذي يؤهّله للقيام بدورٍ قياديٍّ ناشطٍ في بعديه الديني والسياسي، إلا أنه بقي متمسكًا بولاية الفقيه الجزئية، نافيًا بعدها السلطاني[10]. فقد اكتفى الحكيم بتوجيه النصح والإرشاد إلى الجهات الحكومية في شأن بعض السياسات التي تندرج في إطار مخالفة الشريعة، وتعرّض بسبب ذلك لتعدّيات من جانب السلطة المركزية، منها إبعاده إلى الكوفة، وتفتيش داره، واعتقال بعض أتباعه، وتعديل نظام العتبات المقدسة، والإجراءات الطائفية التي فرضتها الحكومة العراقية[11]. وقبل عام من وفاته، انتقل الحكيم إلى بغداد لإبداء اعتراضه على ممارسات الحكومة المركزية ضدّ الشعب العراقي، وإعطاء انطباع للحكومة بأنه يحظى بدعم واسع بين الشعب، وساهم وكلاء الحكيم وقادة حزب الدعوة في تعزيز هذا الانطباع عبر حث الناس من مختلف مناطق العراق على زيارته في محل إقامته في الكاظمية في عملية استعراض للقوة الشعبية التي يتمتع بها الحكيم، وتقدّم حينذاك بقائمة مطالب للحكومة في شأن المعتقلين السياسيين[12].



[1]يقدم أحمد الكاتب قراءة تفصيلية عن دور المرجعية في شؤون العراق، انظر سيرته الذاتية المنشورة على موقعه: أحمد الكاتب، "سيرتي الفكرية والسياسية... من نظرية الإمامة... إلى الشورى...،" وفيها معلومات وافية عن مرحلة السيد محسن الحكيم وسياساته. <https://www.alkatib.co.uk/seerati.htm>.

[2]المعلومات مصدرها الشيخ محمد مهدي شمس الدين. انظر: المولى، طريق ذات الشوكة، ص 54. وقد ذكر السيد مهدي الحكيم ما يقرب من ذلك في مذكراته حين تحدث عن رؤية والده للحزبية وللحكومة الإسلامية، انظر: مذكرات العلامة الشهيد السيد مهدي الحكيم، ص 18-21.

[3]ضمت جماعة العلماء في النجف: الشيخ مرتضى آل ياسين، السيد محمد تقي بحر العلوم، السيد إسماعيل الصدر، السيد موسى بحر العلوم، الشيخ خضر الدجيلين السيد محمد باقر الشخص، الشيخ محمد جواد آل راضي، الشيخ محمد حسن الجواهري، الشيخ محمد رضا المظفر، الشيخ محمد تقي الأيرواني، الشيخ محمد تقي آل راضي، السيد مرتضى الخلخالي، السيد محمد جمال الهاشمي، السيد محمد باقر الصدر، وكان أصغرهم سنًا وأنشطهم في العمل إذ تولى إصدار وتحرير مجلة الجماعة واسمها الأضواء (صدرت من عام 1959 إلى عام 1962) يساعده في تحريرها السيد محمد مهدي الحكيم، السيد محمد باقر الحكيم، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، السيد محمد حسين فضل الله، الشيخ محمد مهدي الآصفي، السيد طالب الرفاعي، الشيخ عبد الهادي الفضلي، الشيخ عارف البصري. وقد أصدر السيد محسن الحكيم فتوى بدعم جماعة العلماء وسماها بالاسم. (معلومات تفصيلية مستقاة من أحاديث خاصة مع الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد باقر الحكيم، بيروت وقم وطهران، صيف 1998). وكان محمد باقر الصدر يكتب افتتاحيات الأضواء (لخمسة أعداد فقط) ثم توقف بسبب إشكال في شأن الحزب والمرجعية، وكتبها محمد مهدي شمس الدين من بعده (لبضعة شهور فقط)، ثم توقف أيضًا للسبب عينه، وقد خرجا من حزب الدعوة بطلب من السيد محسن الحكيم. في حين استمر محمد حسين فضل الله يكتب الافتتاحية حتى توقفت المجلة نهائيًا عام 1962 بعد سحب الحكيم دعمه لها. أما جماعة العلماء في بغداد والكاظمية فضمت: السيد مرتضى العسكري، السيد مهدي الحكيم، السيد إسماعيل الصدر، الشيخ علي الصغير، الشيخ محمد حسن آل ياسين، الشيخ عارف البصري. (انظر: المولى، طريق ذات الشوكة، ص 55-56).

[4] مذكرات العلامة الشهيد السيد مهدي الحكيم، ص 20.

[5]أحمد الحسيني،الإمام الحكيم السيد محسن الطباطبائي (النجف: دار الثقافة، 1964)، ص 70.

[6]عبد الرحمن بن عبد اللطيف البزاز، ولد في بغدادعام 1913، ودرس في كلية الحقوق، وسافر إلى لندنلإتمام دراسته العليا، وكان من مؤسسي نادي البعث الرياضيفي بغداد، وعند إعلان الحرب العالمية الثانيةرجع إلى بغدادقبل أن ينال درجة الدكتوراه. عُين أستاذًا في كلية الحقوقفي جامعة بغداد، ثم عميدًا لها وعميدًا لكلية التجارة والاقتصاد، وكان أستاذًا في كلية الشريعة في الأعظمية، عام 1952... بعد ثورة 14 تموز 1958، عُين سفيرًا للعراقفي القاهرة، ثم اعتزل الوظيفة، وأقام في القاهرةحتى ثورة 8 شباط 1963، فعاد إلى بغدادوتقلد مناصب وزارية عدة منها السكرتير العام للدول المصدرة للنفط(أوبك) 1964 - 1965 في اجتماعها التأسيسي الأول الذي عقد في بغداد. كما شغل منصب وزير خارجية العراقلشهور عدة، ثم عُين رئيسًا للوزراء في أيلول/سبتمبر من عام 1965. ثم رئيسًا للوزراء مرة أخرى عام 1966، كما شغل رمزيًا منصب رئيس الجمهورية في العراقلمدة ثلاثة أيام من 13 نيسان/أبريل إلى غاية 16 نيسان/أبريل من عام 1966، في عقب وفاة الرئيس عبد السلام عارففي حادثة سقوط طائرةمروحية كان يستقلها، وإلى حين تنصيب الرئيس جديد، عبد الرحمن عارفشقيق الرئيس الراحل.

[7]مرتضى بن محمد إسماعيل بن محمد شريف العسكري. ولد عام 1914 في مدينة سامراء العراقية ودرس في حوزتها العلمية، ثم سافر إلى مدينة قم في إيران لإكمال دراسته، وبقي فيها ثلاث سنوات، ثم سافر إلى مدينة الكاظمية فاستقر بها. كان واحدًا من مؤسسي حزب الدعوة وقادته الكبار وله تراث كبير في تأسيس المشاريع التعليمية في البصرة والديوانية وبغداد والحلّة للبنين والبنات، فضلًا عن تأسيس كلّية أصول الدين في بغداد. تميز باشتغاله على علوم القرآن والحديث عند الشيعة. توفي مرتضى العسكري في أيلول/سبتمبر 2007 في العاصمة الإيرانية طهران، ودفن في مدينة قم.

[8] مذكرات العلامة الشهيد السيد مهدي الحكيم، ص 86-87.  

[9]انظر: عدنان إبراهيم السراج، الإمام محسن الحكيم، 1889-1970م: دراسة تاريخية تبحث سيرته ومواقفه وآراءه السياسية والإصلاحية وأثرها على المجتمع والدولة في العراق، إشراف وجيه كوثراني (بيروت: دار الزهراء، 1993)، وهو في الأصل رسالة ماجستير أعدها الكاتب في الجامعة اللبنانية، ص 192، وصلاح الخرسان، حزب الدعوة الإسلامية: حقائق ووثائق: فصول من تجربة الحركة الإسلامية في العراق خلال 40 عاماً، (دمشق: المؤسسة العربية للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 1999)، ص 97.

[10]انظر: محسن الحكيم، نهج الفقاهة (تعليق على كتاب البيع من مكاسب الشيخ الأنصاري)(قم: انتشارات 22 بهمن، [د. ت.])، ص 300 و302.  

[11]بحسب بيان: جماعة علماء بغداد والكاظمية، "محنة العراق اليوم: تقرير عنمحنة الدين في العراق من لجنة الدفاع عن النجف في بيروت،" بيروت، 1969، ص 75-80، انظر أيضًا: المرجعية الدينية وقضايا أخرى: في حوار صريح مع سماحة المرجع الديني الكبير السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم، إعداد وتقديم عبد الهاديالسيد محمد تقي الحكيم، (قم: [د. ن.]، 2001)، الحلقة الثانية، ص 106.

[12]جودت القزويني، "المؤسسة الدينية الشيعية: دراسة في التطور السياسي والعلمي" (أطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الدراسات الشرقية والأفريقية، جامعة لندن، 1997)، ص 174-175.