يقول بورديو: " إن كيفية تسمية الأشياء تعني إيجادها بطريقة مختلفة".
لقد كانت المحاولات المستمرة لكتابة تاريخ موحد للبنان على غرار التاريخ الموحد للبعث السوري أو العراقي أو للقذافية الليبية أو للأدلوجة القومية السورية ، هي المعادل الفعلي للفاشية الاستبدادية الإلغائية التي تعمل على فرض تاريخها ولغتها . وما ينبغي إعادة التأكيد عليه هنا هو أنه ليس من المعيب ولا ضير في امتلاك ذاكرة خاصة بجماعة ما ، أو محددات ومكونات هوية وانتماء لجماعة ما ، إنما العيب والضير هما في عدم القدرة على توليف تلك الانتماءات والهويات في مشروع حضاري إنساني تقدمي يحفظ الوطن والمجتمع والدولة.  فليس تاريخ لبنان استرجاعًا للأساطير الفينيقية ، ولا هو تأكيد على اصطناعية الكيان على حساب الفكرة القومية ، إنه تصالح على واقع وطني مستجد يبدأ مع لحظة التسوية التاريخية التي أوجدت الكيان ... إن القبول بهذا التاريخ  الرسمي للوطن وللأمة والشعب لا يعني بأي حال من الأحوال شطب التواريخ الخاصة والذاكرات المختلفة لا بل والمتغايرة للجماعات المكونة للاجتماع اللبناني ، وإنما إدراجها في منهج نظر واقعي للأحداث وللروايات المختلفة يرى إلى الاختلاف والتعدد كثروة انسانية حضارية، وإلى البشر كفاعلين اجتماعيين ، وإلى التاريخ كسيرورة اجتماعية اقتصادية ثقافية... فمن المستحيل اتفاق اللبنانين على تفسير واحد للاحداث التاريخية القديمة والحديثة على السواء ، والتي تكون هي المرتكز التأسيسي لشرعية أي جماعة أو فئة... ومن المستحيل تمامًا تكوين ذاكرة واحدة لهذه التواريخ. ولذا كان من السهل علينا القول إن الحروب الأهلية المتنقلة بين الأخوة-الأعداء والتي استمرت حتى 1991 كانت من نتاج المؤامرات الخارجية (من دون أن نسأل عن سبب قابليتنا للوقوع في حبال الأجنبي والتي أسماها مالك بن نبي : القابلية للاستعمار ، وأسماها علي شريعتي : القابلية للاستحمار). ولا يجدي نفعًا هنا تأكيدنا على رؤيتنا أو نظرتنا أو فهمنا نحن للأحداث إذ إن ذلك يبقى من قبيل تفسير الماء بالماء طالما أنها لا تحرك أو تستثير نفس المعاني والمشاعر ولا تحمل نفس القيم والدلالات لدى طرفي الصراع.
إن الصراع حول التاريخ والذاكرة وحول المعنى والدلالة ليس بالأمر البسيط أو المستسهل : إنه أخطر ما يواجهنا في عملية إنجاز المصالحة وطي صفحة الحرب الاهلية وبناء الدولة. فلو فرضنا أن ما نعتقد به هو الحق وهو الوطنية ، فإننا لا نحل مشكلة أننا نريد ( اختيارًا أم اضطرارًا ) العيش مع الآخر، الذي نختلف معه ، كشركاء في وطن واحد وفي ظل دولة واحدة نريدها عادلة ومتوازنة... فكيف سنتعايش مع هذا الآخر الذي يرى الأحداث التاريخية التي عاشها من منظار مختلف ؟ وكيف سنتصالح مع ذاكرته أو كيف سنجعله يتصالح هو الآخر مع ذاكرتنا ؟ وبالتالي فهل نستطيع التعامل مع ذاكرة الآخر باحترام ومحبة؟
لقد تصالح المسلمون مع الفكرة اللبنانية ومع صيغة الكيان-الوطن النهائي وأقروا ذلك في وثيقة الطائف والدستور ثم في مظاهرة 14 آذار (وهذا عهد مسؤول)... غير أنهم لم يتصالحوا بعد مع الذاكرة الكيانية-المسيحية اللبنانية ( وما زالوا يرونها انعزالية). وتصالح المسيحيون مع فكرة العروبة الحضارية (في عودة إلى دورهم التاريخي في سياق النهضة المبكرة) وأقروا بلبنان العربي الانتماء في الدستور، غير أنهم لم يتصالحوا بعد مع الذاكرة التاريخية للهموم والقضايا العربية التي ما زالت تحرك عواطف ومشاعر المسلمين... وليست هكذا مصالحات ضرورية لقيام واستمرار الكيان السياسي للدولة والوطن فحسب،  إنما هي أكثر من ضرورة لتنقية الذاكرة ولإعادة تأهيل كل طائفة وكل جماعة ، وذلك من خلال احترام الذاكرة الخاصة بكل فئة، ومحبة تلك الفئة من خلال العفو والمصالحة مع الحاضر والبناء عليه للمستقبل...
والحال فإنه ليس المطلوب (ولا الممكن) إيجاد ذات جمعية واحدة موحدة (هي الأمة الصافية النقية بحسب الأدلوجات القومية) ، إذ إن الأخلاق الفردية والمشاعر والمصالح في الجماعات المتغايرة العناصر تتفاوت وتتعدد وتختلف على نحو واسع وهي تمد الذاكرة الجمعية لكل جماعة بعناصر قوتها وديمومتها.  وبالتالي فإنه لا تنفع معها عمليات الفرض القسري.
لقد دلت التجارب على أنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل في حالات مثل لبنان ويوغوسلافيا (وغيرها) إيجاد "روح أو ذات جمعية" أو "هوية واحدة نقية صافية". ومن الطبيعي القول إنه من دون "شخصية جمعية" يصعب إيجاد "ذاكرة جمعية"... فالكلام تاليًا عن شخصية قومية وعن هوية قومية وعن ذاكرة قومية هو كلام مجازي مطاط لا دقة علمية فيه إذ هو ينتمي إلى الأيديولوجيا .. إن الذاكرة الجمعية لشعب ما، هي التصورات والمثالات المقبولة (أي المعترف بها والشرعية) عن الأحداث الماضية والتي تنعكس فيها الهوية الجمعية لشعب ما أو لجماعة... وفي مجتمعات الدولة-الأمة كانت هذه الذاكرة من نتاج وجود وحضور وفعل الدولة ومؤسساتها... فهي تأثرت وتشكلت وتحددت بفعل التعريفات الرسمية (الدولتية)، والقوانين ، والطقوس والأعراف والتقاليد الخاصة بالدولة والنظم والمؤسسات الديموقراطية وكافة العناصر التي تؤسسها الدولة لتشكل رؤية وطنية للذات (الوطن/الشعب/الأمة) مما يساهم في بناء الذاكرة الجمعية.