يطفو على سطح الأحاديث السياسية هذه الأيام الكلام عن رغبة القوى الكبرى في إعادة رسم الخارطة السياسية والجغرافية للمنطقة، والعمل على انشاء حدود جديدة غير التي رسمت بعد انتهاء الحرب العالمية على ايدي سايكس - بيكو 1916 واستمرت إلى يومنا هذه. 

طبعاً يترافق مع ما يتداول من تفاصيل هذه " المؤامرة " على الأمة الاسلامية وعلى أمة العرب، وما نراه يومياً من خرائط جديدة، يترافق معها  ويرتفع بمحازاتها أصوات القومجيين والإسلامويين وصراخهم بالرفض القاطع والتصدي الممانع  ومحاربة هذه " المؤامرة " الخبيثة بحسب زعمهم وكالعادة يأتي التحذير منها والتبرير لرفضها  تحت اليافطة القديمة الجديدة بأنّ المستفيد الأوحد حال حصولها هو العدو الإسرائيلي الغاشم ودولته العنصرية في فلسطين المحتلة ( كأنّ الدول بحدودها الحالية تشكل خطراَ حقيقي على اسرائيل ).

  لا أدري من أين يأتي هؤلاء وأؤلئك الحمقى ( الاسلامويون والقومجيون ) بفكرة أنّ شعوب المنطقة هم شعوب يحملون في عقولهم ووجدانهم فكرة الوحدة والتوحد والإندماج ، وبأنّ تاريخ هذه الشعوب لا يختزل عمق فكرة الإنفصال والتفرق إلى وحدات وقبائل ومجموعات أصغر بكثير حتى من دويلات وإمارات قد تصل إلى ما دون المدن والقرى وحتى ضواحي المدن!  أستطيع بكل راحة ومعي يسعفني سياق طويل من التاريخ الدموي ومن الحاضر الأكثر دموية، أن أدعي بأنّ معاهدة سايكس- بيكو وعلى عكس كل الشعارات الخطابية الرنانة إنّما عملت وفرضت التوحيد والتوحد على كثير من مساحات المنطقة وليس العكس، ولعلّ لبنان هو الشاهد الاكبر على هذا الإدعاء خلافاً لما يروج كثيرون ويشنفون اذاننا يومياً حتى أضحى هذا الترويج  جزءاً من ثقافتنا البلهاء بدون تدقيق وبدون الرجوع إلى الوقائع التاريخية. 

فإذا كان لبنان " الكبير " هو مثال صارخ على فرض هذا التكبير فرضاً، فإنّ العراقيين والسوريين كانوا على ما يدل عديد من البراهين سينشئون كيانات أصغر بكثير في ما لو تركوا لشأنهم حينئذ،  وأعتقد جازماً أنّ ما نشهده هذه الأيام من تهافت للحدود القديمة وإنشاء مكانها حدود جديدة لمّا تزل في طور الترسيم إنّما هي بسبب تفلت هذه الشعوب ولو بشكل جزئي من قبضة الدول الكبرى التي كانت هي الضامن الوحيد لإستمرار هذه الحدود طيلة هذه الأعوام وإذا كان لا بد من  ذكر لمؤامرة ما، فيمكن القول بأنّ المؤامرة الحقيقة التي نتعرض لها هذه الأيام  تكمن بشكل أساسي عبر تركنا لحال سبيلنا ولرسم حدودنا بأنفسنا،  إنّ ما نشهده هذه الأيام من نزعات انفصالية تبدأ عند الأكراد ولا تنتهي عند الشيعة والسنة والدروز وعرب الأهواز وغيرهم مرده ليس إلى " المؤامرة " الموهومة، بقدر ما هو رفض عميق لفكرة الدولة بمعناها الحديث وإنكار ثقافي متجذر لمفهوم المواطنة ليس إلاّ. 

فإذا كانت المجموعات البشرية المتواجدة صدفة بهذا الشرق ذاهبة إلى رسم حدود دولهم الخاصة ومصرّين على تسوير أنفسهم  بالدم والجثث والدمار والقتلى فإنّ أعظم خدمة " انسانية " يمكن أن يقدمها لهم أصحاب القرار والدول العظمى هي بمساعدتنا على  التقسيم بأقل قدر من الجثث، وعليه فلا أجد بدا من مناشدة كيري - لافروف وأتوسل إليهم بأن قسمونا ارجوكم وباسرع وقت ممكن .