8 آب وما بعده لن يكون حتما كما كان قبله، وتحديدا منذ 3 أعوام، مدة الغياب القسري للرئيس سعد الحريري عن لبنان. فالرجل الذي عاد أمس بصورة فاجأت حتى المقربين من حيث توقيتها وظروفها، أعاد، بعودته، رسم الخريطة السياسية الداخلية والمعادلة الاقليمية في ما يتعلق منها بلبنان.

ما كاد يُعلن عن العودة حتى كثرت التحليلات والمقاربات والقراءات للأسباب الكامنة وراءها وحيثياتها ومدى ارتباطها بتسوية إقليمية - دولية تعيد الحريري الى سدة الرئاسة الثالثة بعد ملء شغور موقع الرئاسة. وثمة من ذهب بعيدا في إطلاق مواعيد لإنجاز الاستحقاق الرئاسي خلال اسبوع من اليوم أو في 20 من الجاري موعدا أقصى، باعتبار أنه موعد الجلسة العاشرة التي دعا اليها رئيس المجلس نبيه بري لانتخاب رئيس جديد.
قد لا تكون هذه التحليلات بعيدة جدا من الواقع، لكنها حتما ليست الواقع الراهن. ذلك أنه لا يزال من المبكر جدا تحميل عودة الحريري هذه الابعاد. لكن هذا لا يعني في المقابل أن تلك العودة ليست مرتبطة بمناخ إقليمي ودولي وفّر لها ظروفها وأمن للحريري حماية أو ضمانا لا شك في انه يحتاج اليهما، ولا سيما في الظروف الخطيرة التي تعيشها المنطقة عموما والبلاد تحديدا، على خلفية امتداد التطرف الاسلامي ومحاولته الهيمنة على رموز الاعتدال في الطائفة السنية.
وفي قراءة مراجع سياسية بارزة لعودة الحريري، يمكن استخلاص النقاط الآتية:
- هاجس الوضع المتفجر في عرسال والذي كاد أن يخرج عن السيطرة مهددا بحمّام من الدماء معروف أين بدأ ولكن من غير المعروف كيف ومتى واين ينتهي.
- التعبير العملي للدعم السعودي للبنان وللاعتدال السني فيه، ورفع أي غطاء يمكن أن يُعطى للحركات الاسلامية المتطرفة الناشطة في عرسال أو غيرها، على قاعدة ان المملكة تحارب الارهاب وتؤمن التمويل لمواجهته. وقد حرص العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز على توجيه رسالة الدعم بشكل واضح وصريح من خلال الاعلان عن دعم مالي جديد بقيمة مليار دولار للجيش وتكليف الحريري متابعة آليات صرفه، الامر الذي يستدعي توجهه الى بيروت لتنفيذ المهمة. وتجلى الدعم كذلك باتصال الملك برئيس الحكومة تمام سلام للغاية عنها، فضلا عن إيفاد سفير المملكة في بيروت علي عواض عسيري الى "بيت الوسط" فور وصول الحريري اليه لتقديم التهنئة. وكان لافتا ان السفير الاميركي ديفيد هيل سبق عسيري الى "بيت الوسط" بما يؤشر الى تفاهم سعودي اميركي حيال عودة الحريري، علما ان المعلومات المستقاة من اوساط ديبلوماسية تشير الى ان سفيرة الاتحاد الاوروبي انجلينا ايخهوريست لم تكن بعيدة بدورها عن خبر العودة وكانت تنتظر "الزائر الكبير".
- ليس الدعم السعودي الجديد للجيش ووضعه في يد الحريري الا تعبيرا عن الثقة التي تمحضها المملكة للحريري أولا، ولوصول المساعدة الى وجهتها، وللجيش ثانيا في حماية أمن لبنان واستقراره ومساعدته على مواجهة الارهاب. وينتظر ان تبدأ بوادر المساعدة بالظهور خلافا لهبة المليارات الثلاثة التي جُمدت في انتظار إعادة النظر في آليات صرفها، بعد الشكوك التي أثيرت حولها. وعلم في هذا المجال أن المملكة وضعت شروطا حول تسليم التجهيزات العسكرية المعقودة تستدعي كشفا سعوديا مسبقا عليها.
- لا شك في ان في عودة الحريري تنفيسا للاحتقان المذهبي ولاحتواء الشارع السني المضطرب، وتأكيدا للزعامة الحريرية ورمزية الاعتدال التي يمثلها نقيضاً للتطرف الذي بدأت مظاهر تمدده الى العمق اللبناني تشكل خطرا حقيقيا على التوازن الطائفي وصيغة التعايش الوطني.
- لم تأت عودة الحريري من فراغ، بل جاء الدعم السعودي المباشر من الملك وائتمانه على المساعدة المالية للجيش والقوى الامنية لمكافحة الارهاب، معطوفا على ضمانات دولية وإقليمية لم تبد إيران او "حزب الله" خارجها، وبدا الموقف الاخير للحزب الذي نفى فيها تورطه في عرسال متزامنا مع موقف مماثل للحريري، نازعا للألغام من أمام عودة الحريري.
ولكن هل هذه الاسباب تدفع الى الاعتقاد أن الحريري عاد ليبقى وليترأس حكومة ما بعد الانتخابات الرئاسية يرتقب ان تتبلور ملامحها انطلاقا مما يحكى عن تسوية سياسية انجزت حيال الرئاسة وحيال الرئيس العتيد تحديدا؟
ليس في المعطيات الراهنة ما يدل على ان هذا السيناريو قريب التنفيذ، لكنه ليس بعيد المنال. وعليه، تتحفظ المراجع السياسية البارزة عن التفاؤل حياله، مشيرة الى ان عودة الحريري ساهمت في بدء تطبيق خريطة الطريق التي رسمها في خطابه الرمضاني الاخير.
وتشير الى أن هذه الخريطة وضعت على السكة ولم يعد مهما الوقت الذي سيستغرقه تنفيذها. ذلك أن المهم اليوم سحب فتيل التفجير المذهبي الداخلي وإبعاد سرطان التطرف عن الجسم اللبناني والعودة الى الدولة ومؤسساتها.
إذا كانت هذه مهمة الحريري الانقاذية في الظروف الخطيرة الراهنة، فهذا يعني أنه أتى ليبقى.